قوت البهائم :﴿كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾ [طه : ٥٤] ومطعوم البشر، فمنها الطعام ومنها الإدام، ومنها الرَّوَاء، ومنها الفاكهة، ومنها الأنواع المختلفة في الحَلاَوَةَ والحموضة، ومنها كسوة البشر ؛ لأن الكسوة إمّا نباتية وهي القطن والكتان، وإما حيوانية وهي الشَّعَر والصُّوف، والأَبْرَيْسَم، والجاود، وهي من الحيوانات التي بثّها الله في الأرض، فالمطعوم من الأرض، والملبوس من الأرض ؛ ثم قال :﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل : ٨].
وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا نعلمها نحن، والله [تعالى عالم بها]، فَصْلٌ قال بعضهم : السَّماء أفضل من الأرض لوجوه : أحدها : أن السَّماء متعبَّد الملائكة، وما فيها عُصي الله فيها.
وثانيها : لما أتى آدم - عليه الصلاة والسلام - في الجَنّة بتلك المعصية قيل : اهبط من الجنة، وقال الله :" لا يسكن في جواري من عَصَاني ".
وثالثها :﴿وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ [الأنبياء : ٣٢] وقوله :﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً﴾ [الفرقان : ٦١] ولم يذكر في الأرض مثل ذلك.
ورابعها : في أكثر الأمر ورد ذكر السَّماء مقدماً على الأرض في الذكر.
وقال آخرون : بل الأرض أفضل ؛ لوجوه : أحدها : أنه - تعالى - وصف بقاعاً في الأرض بالبركة ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً﴾ [آل عمران : ٩٦]، ﴿فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ [القصص : ٣٠] ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء : ١].
ووصف أرض " الشام " بالبركة فقال :﴿مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأعراف : ١٣٧].
ووصف جملة الأرض بالبركة فقال :﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ﴾ [فصلت : ٩] إلى قوله :﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾ [فصلت : ١٠].
فإن قيل : فأي بركةٍ في الفَلَواتِ الخالية، والمَفَاوزِ المُهْلِكَةِ ؟ قلنا : إنها مساكن الوحوش ومرعاها، ومَسَاكن النَّاس إذا احتاجوا إليها، فلهذه البركة قال تعالى :﴿وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات : ٢٠] وهذه الآيات وإن كانت حاصلةً لغير المؤمنين، لكن ممَّا لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للمؤمنين تشريفاً لهم كما قال :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة : ٢].
٤١٨
وثانيها : أنه - سبحانه - خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال :﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ [طه : ٥٥] ولم يخلق من السماء شيئاً، لأنه قال :﴿وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ [الأنبياء : ٣٢].
وثالثها : أن الله - تعالى - أكرم نبيّه، فجعل الأرض كلها مسجداً، وجعل ترابها طهوراً.
فَصْلٌ في فَضْلِ السَّمَاءِ وهو من وجوه : الأول : أن الله - تعالى - زيَّنَهَا بسبعة أشياء : بالمصابيح ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك : ٥].
وبالقمر ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً﴾ [نوح : ١٦] وبالشمس :﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً﴾ [نوح : ١٦].
وبالعرش، وبالكرسي، وباللوح المحفوظ، وبالقلم، فهذه السَّبعة ثلاثة منها ظاهرة، وأربعة مثبتة بالدلائل السَّمعية.
الثاني : انه - تعالى - سمّاها بأسماء تدلّ على عظم شانها سماء، وسقفاً محفوظاً، وسبعاً طباقاً، وسبعاً شداداً، ثم ذكر عاقبة أمرها فقال :﴿وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ﴾ [المرسلات : ٩]، ﴿وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ﴾ [التكوير : ١١]، ﴿إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ﴾ [الانفطار : ١]، و ﴿إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ﴾ [الانشقاق : ١]، ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء : ١٠٤]، ﴿تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ﴾ [المعارج : ٨]، ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً﴾ [الطور : ٩].
﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ [الرحمن : ٣٧].
وذكر مبدأها فقال :﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت : ١١] وقال :﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ااْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء : ٣٠] فهذا الاستقصاء والتشديد في كيفية حدوثها وفنائها يدلُّ على أنه - سبحانه وتعالى - خلقها لحكمة بالغة على ما قال :﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ [ص : ٢٧].
الثَّالث : أنه - تعالى - جعل السَّماء قِبْلَةَ الدعاء، فالأيدي تُرفع إليها، والوجوه تتوجّه نحوها، وهي منزل الأنوار، ومحل الضياء والصّفاء، والطهارة، والعصمة من الخلل والفَسَاد.
والبناء : مصدر " بنيت "، وإنما قلبت " الياء " همزة لتطرُّفها بعد ألف زائدة، وقد يراد به المفعول، و " أنزل " عطف على " جعل " و " من السماء " متعلّق به، وهي لابتداء الغاية،
٤١٩


الصفحة التالية
Icon