اختلفوا في الذي مرَّ بالقرية فقال مجاهد، وأكثر المفسرين من المعتزلة : كان رجلاً كافراً شاكّاً في البعث.
وقال قتادة، وعكرمة، والضحاك، والسديُّ : هو عُزَيرُ بن شرخيا.
وقال وهب بن منبه، ورواه عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - هو إرمياء بن خلقيا، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم : إنَّ إرمياء هو الخضر - عليه السَّلام -، وهو من سبط هارون بن عمران - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو قول محمد بن إسحاق.
وقال وهب بن منبِّه : إنَّ إرمياء، هو النبي - ﷺ - الذي بعثه الله عندما خرَّب بخت نصَّر بيت المقدس، وأحرق التوراة.
واحتجَّ من قال إنه كان كافراً بوجوه : الأول : استبعاده الإحياء بعد الإماتة من الله وذلك كفرٌ.
فإن قيل : يجوز وقوع ذلك منه قبل البلوغ.
٣٥٠
قلنا : لو كان كذلك، لم يجز أن يعجب الله رسوله منه إذ الصَّبيُّ لا يتعجَّب من شكِّه في مثل ذلك، وضعَّفوا هذه الحجة ؛ بأن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشَّكِّ في قدرة الله تعالى، بل يحتمل أن يكون بسبب اطِّراد العادات في أنَّ مثل ذلك الموضع الخراب قلَّما يصيِّره الله معموراً، كما أنَّ الواحد إذا رأى جبلاً، فيقول : متى يقلب الله هذا ذهباً، أو ياقوتاً ؟ لا أن مراده الشَّكُّ في قدرة الله، بل إنَّ ذلك لا يقع في مطرد العادات، فكذا ها هنا.
الحجة الثانية : قوله تعالى في حقه :﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ وهذا يدلُّ على أنه قبل ذلك لم يحصل له التبين، وضعِّف ذلك بأن تبيُّن الإحياء على سبيل المشاهدة، ما كان حاصلاً له قبل ذلك، وأمَّا التبين على سبيل الاستدلال فلا يسمل أنه لم يكن حاصلاً له.
الحجة الثالثة : قوله :﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّ هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت، وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأن تلك المشاهدة أفادت نوع توكيد، وطمأنينة، وذلك إنما حصل في ذلك الوقت، وهذا يدلُّ على أنَّ أصل العلم ما كان موجوداً قبل ذلك.
الحجة الرابعة : انتظامه مع النمروذ في سلكٍ واحدٍ، وهذا - أيضاً - ضعيفٌ ؛ لأنه وإن كان قبله قصَّة النمروذ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم.
واحتج من قال إنه كان مؤمناً بوجوه : منها قوله تعالى :﴿أَنَّى يُحْيِي هَـاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ وهذا يدلُّ على أنَّه كان عالماً بعد موتها بالله تعالى وبأنَّه يصحُّ منه الإحياء في الجملة، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء، إنما يصحُّ إذا حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة، فأما من يعتقد أنَّ القدرة على الإحياء ممتنعةٌ لم يبق لهذا التخصيص فائدة.
ومنها مخاطبة الله تعالى له بقوله :﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ وبقوله :﴿بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ﴾، وبقوله :﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾، وبقوله :﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾، وبقوله ﴿وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً﴾ وهذه المخاطبات لا تليق بالكافر، قال تعالى :﴿وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء : ٩١]، فجعله آية للناسن دليلٌ على مزيد التشريف.
ومنها ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير، ومنهم العزير وكان من علمائهم، فجاء بهم إلى " بابل " فدخل عُزَيرٌ يوماً تلك القرية ونزل تحت ظلِّ شجرةٍ، وهو على حمارٍ، فربط حماره، وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً، فعجب من ذلك، وقال ﴿أَنَّى يُحْيِي هَـاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ لا على سبيل الشَّكِّ في القدرة، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، وكانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التين والعنب، وشرب من عصير العنب، ونام فأماته الله في منامه مائة عام
٣٥١


الصفحة التالية
Icon