فإن قيل : قد تقدَّم شيئان، وهما " طَعَامِكَ وشَرَابِكَ " ولم يعد الضَّمير إلاَّ مفرفاً، قلنا فيه ثلاثة أوجهٍ : أحدهما : أنها لمَّا كانا متلازمين، بمعنى أنَّ أحدهما لا يكتفى به بدون الآخر، صارا بمنزلة شيء واحد ؛ حتى كأنه [قال :] فانظر إلى غذائك.
الثاني : أنَّ الضمير يعود إلى الشَّراب فقط ؛ لأنه أقرب مذكور، وثمَّ جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها.
والتقدير : وانظر إلى طعامك لم يتسنَّه، وإلى شرابك لم يتسنَّه، وقرأ ابن مسعود - رضي الله عنه - " فانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وهذا شَرابُك لم يتسنه "، أو يكون سكت عن تغيُّر الطعام ؛ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّر الشراب مع نزعة النَّفس إليه، فعدم تغيُّر الطعام أولى، قال معناه أبو البقاء.
الثالث : أنه أفرد في موضع التثنية، قاله - أيضاً - أبو البقاء ؛ وأنشد :[الكامل] ١٢٠٢ - فَكَأَنَّ في الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ
أَوْ سُنْبَلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
وليس بشيءٍ.
وقرأ حمزة، والكسائي :" لَمْ يَتَسَنَّهْ " بالهاءِ وقفاً، وبحذفها وصلاً، والباقون : بإثباتها في الحالين.
فأمَّا قراءتهما، فالهاءُ فيها للسكتِ.
وأمَّا قراءةُ الجماعةِ : فالهاءُ تحتملُ وجهين : أحدهما : أن تكون - أيضاً - للسكت، وإنما أُثبتت وصلاً إِجراءً للوصل مجرى الوقف، وهو في القرآن كثيرٌ، [سيمرُّ بك منه مواضع] فعلى هذا يكون أصل الكلمة : إِمَّا مشتقاً من لفظ " السَّنَةِ " على قولنا إِنَّ لامَها المحذوفة واوٌ، ولذلك تُرَدُّ في التصغير والجمع ؛ قالوا :" سُنَيَّة وَسَنَوات " ؛ وعلى هذه اللغة قالوا :" سَانَيْتُ " أُبْدِلَتِ الواو ياءً ؛ لوقوعها رابعةً، وقالوا : أَسْنَتَ القومُ إذا أصابتهُمُ السَّنَةُ ؛ قال الشاعر :[الكامل] ١٢٠٣ -..........................
وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
٣٥٦
ويقولون في جمعها : سنوات فقلبوا الواو تاءً، والأصلُ : أَسْنُووا، فأَبْدلوها كما أَبْدلُوها في تُجاه وتُخمة ؛ كما تقدَّم، فأصله : يَتَسَنَّى فحُذِفت الألف جزماً.
وإما من لفظ " مَسْنُون " وهو المتغيرُ، ومنه ﴿حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ [الحجر : ٢٨]، والأصلُ : يتَسَنَّنُ، بثلاثٍ نونات، فاسْتُثْقل توالي الأَمثال، فأَبدلنا الأخيرة ياءً ؛ كما قالوا في تظنَّن : تظنَّى، وفي قصَّصت أظفاري : قصَّيتُ، ثم أبدلنا الياء ألفاً ؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، ثم حُذِفت جزماً، قاله أبو عمرو، وخطَّأَه الزجاج، قال :" لأنَّ المسنونَ : المصبوبُ على سنن الطريق ".
وحُكِيَ عن النقَّاش أنه قال :" هو مأخوذٌ من أَسِن الماءُ " أي : تغيَّر، وهذا وإِنْ كان صحيحاً معنًى، فقد رَدَّ عليه النحاةُ قوله ؛ لأنه فاسِدٌ اشتقاقاً، إذ لو كان مشتقاً من " أَسِنَ الماءُ " لكان ينبغي حين منه تفعَّل، أَنْ يقال تأسَّنَ.
ويمكن أَنْ يُجاب عنه : أنه يمكنُ أن يكون قد قُلبت الكلمةُ بأن أُخِّرت فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضع لامها، فبقي : يَتَسَنَّأ، بالهمزة آخراً، ثمَّ أُبدلت الهمزةُ ألفاً، كقولهم في قرأ :" قَرَا "، وفي استهزأ :" اسْتَهْزا " ثم حُذفت جزماً.
والوجه الثاني : أن تكون الهاءُ أصلاً بنفسها، ويكونُ مشتقاً من لفظ " سَنَة " أيضاً، ولكن في لغةِ من يجعلُ لامها المحذوفة هاءً، وهم الحجازيون، والأصلُ : سُنَيْهة، يدلُّ على ذلك التصغير والتكسير، قالوا : سُنَيْهةٌ، وسُنَيْهَاتٌ، وسَانَهْتُ ؛ قال شاعرهم : ١٢٠٤ - وَلَيْسَتْ بِسَهْنَاءٍ وَلاَ رُجَبِيَّةٍ
وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوَائِحِ
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤٦
ومعنى " لم يَتَسَنَّهْ " على قولنا : إِنَّهُ من لفظ السَّنَة، أي : لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه، بل بقي على حالِهِ، وهذا أَوْلَى من قول أَبي البقاء في أثناء كلامه :" مِنْ قولك : أَسْنَى يُسْنِي، إذا مَضَتْ عليه سِنُون " ؛ لأنه يصير المعنى : لم تمضِ عليه سِنُون، وهذا يخالفه الحِسُّ، والواقع.
وقرأ أُبَيّ ؛ " لَمْ يَسَّنَّهْ " بإِدْغَام التَّاءِ في السِّينِ، والأَصْلُ :" لم يَتَسَنَّهْ ".
٣٥٧


الصفحة التالية
Icon