فصلٌ في معنى قوله :﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ قال الطبريُّ : معنى قوله :" فلمَّا تبيَّنَ لهُ " أي : لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه، قال : أَعلمُ.
قال ابن عطيَّة : وهذا خطأٌ ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذِّ، وهذا عندي ليس بإِقرارٍ بما كان قبل ينكره، كما زعم الطبريُّ، بل هو قولٌ بعثه الاعتبارُ ؛ كما يقول المؤمنُ إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله تعالى : لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ، ونحو هذا.
وقال أبو عليّ : معناه أعلم هذا الضرب من العلمِ الذي لم أكُن أَعْلَمه.
و " أَنَّ الله " في محلّ نصب، سادَّةً مسد المفعولين، أو الأَوَّل والثاني محذوفٌ على ما تقدّم من الخلاف.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤٦
هذه القصة الثالثة الدالَّةُ على صحَّة البعث.
في العامل في " إذْ " ثلاثةُ أوجه : أظهرها : أنه قال :﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن﴾، أي : قال له ربَّه وقتَ قوله ذلك.
والثاني : أنه " أَلَمْ تَرَ " أي : ألم تر إذ قال إبراهيم.
والثالث : أنه مضمرٌ تقديره : واذكر قاله الزجاح فـ " إِذْ " على هذين القولين مفعولٌ به، لا ظرفٌ.
و " ربِّ " منادى مضافٌ لياءِ المتكلم، حُذفَتْ ؛ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها، وهي اللغةُ الفصيحةُ، وحُذِف حرفُ النداءِ.
وقوله :" أَرِنِي " تقدَّم ما فيه من القراءات، والتوجيه في قوله :﴿وَأَرِنَا﴾ [البقرة : ١٢٨] والرؤية - هنا - بصرية تتعدَّى لواحدٍ، ولمَّا دخلَتْ همزةُ النقل، أكسبته مفعولاً ثانياً، والأولُ ياءُ المتكلم، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي معلقة للرؤية و " رأى " البصرية تُعَلَّق، كما تعلق " نَظر " البصرية، ومن كلامهم :" أَمَا تَرَى أَيُّ بَرْقٍ هَهُنَا ".
و " كَيْفَ " في محلِّ نصب : إمَّا على التشبيه بالظرف، وإمَّا على التشبيه بالحال، كما تقدَّم في قوله :﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة : ٢٨].
والعاملُ فيها " تُحيي " وقدَّره مكي : بأي حالٍ تُحْيي الموتى، وهو تفسيرُ معنًى، لا إعرابٍ.
قال القرطبيُّ : الاستفهامُ بكيف، إنما هو سؤالٌ عن حالةِ شيءٍ موجودٍ متقرر
٣٦٤
الوجوه عند السائل، والمسؤول ؛ نحو قولك : كيف علم زيد ؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا : ومتى قلت : كيف ثوبُكَ ؟ وكيف زيدٌ ؟ فإِنَّما للسؤال عن حالٍ من أحواله، وقد تكون " كَيْفَ " خبراً عن شيءٍ شأنه أَنْ يُسْتفهم عنه بكيف، نحو قولك : كيف شِئتَ فكُنْ، ونحو قول البخاريّ :" كَيْفَ كان بَدْءُ الوَحْي "، و " كَيْفَ " في هذه الآية إِنَّما هي استفهامٌ عن هيئة الإِحياء، والإحياءُ متقرِّرٌ، ولكن لمَّا وجدنا بعض المنكرين لوجود شيءٍ، قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة ذلك الشيء، يعلم أنها لا تصح ؛ فيلزم من ذلك أَنَّ الشيء في نفسه لا يصحُّ ؛ مثاله أَنٍْ يقول مُدَّعٍ أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذِّب له : أَرِني كيف ترفعه فهذه طريقةُ مجاز في العبارة، ومعناها تسلِيمٌ جدلي، كأنه يقول : افرِض أَنَّكَ ترفعه، فأرني كيف ترفعه فلما كان في عبارة الخليل - عليه الصَّلاة والسَّلام - هذا الاشتراك المجازي، خلص اللهُ له ذلك، وحمله على أَنْ بيَّن له الحقيقة، فقال لله :" أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ ؟ قال : بَلَى " فكمل الأَمر، وتخلص من كُلِّ شكٍّ.
فإِن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى لم يُسَمِّ عزيراً، بل قال :﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة : ٢٥٩]، وها هُنَا سمَّى إبراهيم، مع أَنَّ المقصُودَ في كِلتا القصَّتين شيءٌ واحِدٌ ؟ ! فالجواب : قال ابن الخطيب - رحمه الله - : والسببُ فيه : أَنَّ عزيراً لم يحفظِ الأَدَبَ، بل قال ﴿أَنَّى يُحْيِي هَـاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة : ٢٥٩] ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في نفسه، وإبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام - حفظ الأَدب، ورَاعاهُ ؛ فقال أَوَّلاً " رَبِّ " ثُمَّ دعا فقال :﴿أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في الطيور.
قوله :﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن﴾ في هذه الواوِ وجهان : أظهرهما : أنها للعطفِ قُدِّمت عليها همزةُ الاستفهامِ، لأنها لها صدرُ الكلامِ والهمزةُ هنا للتقريرِ ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي، قَرَّره ؛ كقول القائل :[الوافر] ١٢١١ - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا
وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٤