وزعم بعضهم : إن إضافته نادرةٌ، لا يقاس عليها، وبعضهم : أنَّ اسم الجمع لما يعقل مؤنث، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ ؛ لما تقدَّم من الآية الكريمة، واسم الجمع لما لا يعقل يذكَّر، ويؤنَّث ؛ وهنا جاء مذكراً لثبوت التاء في عدده.
قوله :﴿فَصُرْهُنَّ﴾ قرأ حمزة، والكسائي : بكسر الصَّاد، والباقون : بضمِّها، وتخفيف الراء.
واختلف في ذلك، فقيل : القراءتان يحتمل أن تكونا بمعنًى واحدٍ، وذلك أنه يقال : صاره يصوره ويَصِيرُهُ، بمعنى قطعه، أو أماله، فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين، والقراءتان تحتملهما معاً، وهذا مذهب أبي عليّ.
وقال الفراء :" الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين، وأمَّا الكسر : فمعناه القطع فقط ".
وقال غيره :" الكَسْرُ بمعنى القطع، والضمُّ بمعنى الإمالة ".
يقال رجل أصور، أي : مائلُ العنق، ويقال : صار فلان إلى كذا، إذا قال به، ومال إليه، وعلى هذا يصير في الكلام محذوفٌ، كأنه قيل أملهنَّ إليك، وقطِّعهنَّ.
وقال ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد : صرهنَّ بالضم : بمعنى قطِّعهنَّ، يقال صار الشَّيء يصوره صوراً، إذا قطعه، قال رؤبة يصف خصماً ألد :[الرجز]
١٢١٣ - صُرْنَاهُ بِالحُكْمِ وَيَبْغِي الحَكَمَا
أي : قطعناهُ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار، وقال عطاء : معناه اجمعهنَّ، واضممهنَّ إليك، يقال : صار يصور صوراً، إذا اجتمع، ومنه قيل لجماعة النَّحل : صورٌ.
فصل في لفظ " الصِّرِّ " في القرآن قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ الصِّرِّ في القرآن على ثلاثة أوجهٍ : الأول : بمعنى القطع ؛ كهذه الآية، أي : قطِّعهنَّ إليك صوراً.
الثاني : بمعنى الريح الباردة، قال تعالى :﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ [آل عمران : ١١٧] أي : بردٌ.
الثالث : يعني الإقامة على الشيء ؛ قال تعالى ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ﴾ [آل عمران : ١٣٥]، أي : لم يقيموا، ومثله :﴿وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة : ٤٦].
٣٧٠
ونقل عن الفرَّاء أيضاً : أنه قال :" صَارَه " مقلوبٌ من قولهم :" صَرَاهُ عَنْ كَذَا "، أي : قطعه عنه، ويقال : صُرْتُ الشيء، فانصار، أي : انقطع ؛ قالت الخنساء :[البسيط] ١٢١٤ - فَلَوْ يُلاَقِي الَّذي لاَقَيْتُهُ حَضِنٌ
لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تَنْصَارُ
أي : تنقطع.
قال المبرد : وهذا لا يصحُّ ؛ لأنَّ كلَّ واحد من اللفظين أصل بنفسه فرع على الآخر.
واختلف في هذه اللفظة : هل هي عربيةٌ، أو معرَّبة ؟ فعن ابن عباس : أنها معرَّبة من النَّبطية، وعن أبي الأسود، أنَّها من السُّريانية، والجمهور على أنها عربيةٌ، لا معرَّبةٌ.
و " إِلَيْكَ " إن قلنا : إِنَّ " صُرْهُنَّ " بمعنى أملهنَّ : تعلَّق به، وإن قلنا : إنه بمعنى : قطِّعهنَّ، تعلَّق بـ " خُذْ ".
ولمَّا فسَّر أبو البقاء " فَصُرْهُنَّ " بمعنى : أَمْلْهُنَّ " قدَّر محذوفاً بعده تقديره : فأملهنَّ إليك، ثم قطِّعهنَّ، ولمَّا فسَّره بقطِّعهن - كما تقدم - قدَّر محذوفاً يتعلَّق به " إِلَى " تقديره : قطِّعهنَّ بعد أن تميلهنَّ إليك.
ثم قال :" والأجودُ عندي أن يكون " إليك " حالاً من المفعول المضمر تقديره : فقطِّعهنَّ مقرَّبةً إليك، أو ممالةً، أو نحو ذلك ".
وقرأ ابن عباس - رضي الله عنه - :" فَصُرْهُنَّ " بتشديد الراء، مع ضم الصاد وكسرها، مِنْ : صرَّه يَصُرّه، إذا جمعه ؛ إلاَّ أنَّ مجيء المضعَّف المتعدِّي على يفعل - بكسر العين في المضارع - قليلٌ.
ونقل أبو البقاء رحمه الله تعالى عمَّن شدَّد الراء : أنَّ منهم من يضمُّها، ومنهم من يفتحها، ومنهم من يكسرها، مثل :" مُدَّهُنَّ " فالضمُّ على الإتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين.
قال القرطبي : قرئ " صَرِّهِنَّ " بفتح الصاد، وتشديد الراء مكسورة ؛ حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة ؛ بمعنى فاحبسهنَّ، من قولهم :" صرَّى يُصَرِّي " : إذا حبس، ومنه الشاة المصرَّاة، قال القرطبي : وها هنا اعتراضٌ ذكره الماوردي، وهو أن يقال : كيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى - عليه السلام - في قوله :﴿رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف : ١٤٣] ؟
٣٧١