قوله :﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية، ولم يُجْمَع لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران، وهو يحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الفاعل، أو المفعول، والأول أظهر.
قال الزمخشريُّ :" وكرر ذكر القرآن بما هو نعت له.
ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس ؛ تعظيماً لشأنه، وإظهاراً لفضله ".
قال شهاب الدينِ :" قد يعتقد معتقد أن في كلامه هذا رَدًّا لقوله الأول ؛ حيث قال : إن " نَزَّل " يقتضي التنجيم، و " أنْزَلَ " يقتضي الإنزال الدفعي ؛ لأنه جوز أن يراد بالفرقان القرآن، وقد ذكره بـ " أنْزَلَ "، ولكن لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ ذلك ؛ لأنه لم يَقُل : إن أنزل للانزال الدفعيِّ فقط، بل يقول : إن " نَزَّل " - بالتشديد - يقتضي التفريق، و " أنْزِلَ " يحتمل التفريق، ويحتمل الإنزال الدفعي ".
فصل في المراد بـ " الفرقان " قيل : المراد بالفرقان هو الزبور ؛ لقوله :﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾ [الإسراء : ٥٥].
وقيل القرآن، وإنما أعاده تعظيماً لشأنه، ومدحاً له بكونه فارقاً بين الحق والباطل.
أو يقال : إنه تعالى أعاد ذكرَه ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل، ليجعله فارقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير، فلا تكرار.
وقال الأكثرون : إن المراد أنه تعالى - كما جعل هذه الكتب الثلاثة هدًى ودلالة - قد جعلها مفرقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع.
قال ابن الخطيبِ :" وهذه الأقوال - عندي - مُشْكِلةٌ.
فأما حمله على الزبور فبعيد ؛ لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، وإنما هو مواعظ ووصف التوراة والإنجيل - مع اشتمالهما على الدلائل والأحكام - بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك.
وأما حمله على [القرآن] فبعيد من حيث إنه عطف على ما قبله، والمعطوف يغاير المعطوف عليه، والقرآن مذكور قبل ذلك فيقتضي أن يكون الفرقان مغايراً للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه [الكتب] فارقةً بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب، وعطف الصفة على الموصوف - وإن كان قد ورد فيه بعض الأشعار النادرة [إلا أنه] ضعيف، بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام اللهِ تعالى.
والمختار عندي هو أن المراد بالفرقان - هنا - المعجزات المقرونة بإنزال هذه
٢٢
الكتب ؛ لأنهم لما أتوا بهذه الكتب، وادعوا أنها نزلت عليهم من عند الله تعالى افتقروا إلى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم ودعوى الكاذبين، فلما أظهر الله تلك المعجزات على وفق دعواهم حصلت المفارقة بين دعوى الصادق، ودعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب بالحق، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا ما عندي ".
ويمكن أن يجاب بأنه إذا قلنا : المراد به جميع الكتب السماوية، فيزول الإشكال الذي ذكره، ويكون هذا من باب ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى :﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾ [عبس : ٢٧ - ٣١].
قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ﴾ يحتمل أن يرتفعَ " عَذَابٌ " بالفاعلية بالجار قبله، لوقوعه خبراً عن " إنَّ " ويحتمل أن يرتفعَ على الابتداء، والجملة خبر " إنَّ " والأول أولى ؛ لأنه من قبيل الإخبار بما يقرب من المفردات و " انتقام " افتعال، من النقمة وهي السطوة والتسلط، ولذلك عبر بعضهم عنها بالمعاقبة، يقال : نَقَمَ - بالفتح - وهو الأفصح، ونَقِم - بالكسر - وقد قُرِئ بهما ويقال : انتقم من انتم، أي : عاقبه وقال الليث : ويقال لم أرض عنه، حتى نقمت، وانتقمت إذا كافأه عقوبة بما صنع.
وسيأتي له مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى.
فصل اعلم أنه تعالى لما قرر جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد ؛ زَجْراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرةِ، فقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ فخصَّ بعضُ المفسّرين ذلك بالنصارى ؛ قَصْراً للفظ العام على سبب نزوله.
وقال المحقِّقون : الاعتبار بعموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾، أي : غالب لا يُغْلَب، وهذا إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، و ﴿ذُو انْتِقَام﴾ إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب، فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣
هذا الكلام يحتمل وجهَيْنِ : الأول : أن يُنَزَّلَ على سبب النزول ؛ وذلك لأن النصارى ادَّعَوُا الإلهيةَ لعيسَى ؛ لأمور :
٢٣