لها، لكونها مستأنفة جواباً لمن قال : لمن أعدت ؟ وقال أبو البَقَاء : محلها النصب على الحال من " النار "، والعامل فيها " اتقوا ".
قيل : وفيه نظر، فإنها معدة للكافرين اتقوا أم لم يتقوا، فتكون حالاً لازمة، لكن الأصل في الحال التي ليست للتوكيد أن تكون منتقلة، فالأولى أن تكون استئنافاً.
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكون حالاص من الضمير في " وقودها " لثلاثة أشياء : أحدها : انها مضاف إليها.
الثاني : أن الحطب لا يعمل يعني أنه اسم جامد.
الثالث : الفصل بين المصدر أو ما يعمل عمله، وبين ما يعمل فيه الخبر وهو " الناس "، يعني أن الوقود بالضم، وإن كان مصدراً صالحاً للعمل، فلا يجوز ذلك أيضاً ؛ لأنه عامل في الحال، وقد فصلت بينه وبينها بأجنبي، وهو " الناس " وقال السّجستاني :" أعدّت للكافرين " من صلة " التي " كقوله :﴿وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران : ١٣١].
قال بان الأنْبَاري : وهذا غلطاً ؛ لأنا لا نسلم أن " وقودها الناس " - والحالة هذه - صلة، بل إما معترضة، لأن فيها تأكيداً وإما حالاً، وهذان الوجهان لا يمنعهما معنى، ولا صناعة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٢٩
اعلَمْ : أنَّه - سبحانه وتعالى - لمَّا تكلَّم في التوحيد والنُّبوَّة، تكلَّم بعدهما في ذكر المَعَاد، وبيَّن عقاب الكافر، وثواب المُطيعِ، ومن عادة الله - تعالَى - أنه إذا ذَكَرَ الوَعِيدَ، أَنْ يعقبَهُ بذكرِ الوَعْد.
وها هنا فُصُولٌ : الأوَّلُ : هذه الآياتُ صريحةٌ في أنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقَتَانِ، لأنه - تعالى - [قال] في صفَة النَّار :﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة : ٢٤] وقال في صفَة الجَنَّة في آية أخْرَى :﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران : ١٣٣]، وقال ها هنا :﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ وهذا إخبار عن وُقُوع هذا المُلْك وحُصُوله، وحُصُول المُلْك في الحالِ يقْتَضي حصُولَ
٤٤٥
المَمْلُوك في الحال ؛ فَدَلَّ على أنَّ الجنَّة والنَّار مخْلُوقَتَان.
الثاني : مَجَامَعُ اللَّذَّاتِ : إما المَسْكن، أو المَطْعم، أو المَنْكَح.
فَوَصَفَ تعالى المَسْكَن بقولِهِ :﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ والمَطْعَمَ بقوله :﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً﴾ والمَنْكَح بقوله :﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾.
ثم هذه الأشياءُ إنْ حصَلَتْ، وقارنَهَا خوْفُ الزوالِ، كان النَّعِيمُ مُنَغَّصاً، فبيَّن - تعالى - زوالَ هذا الخَوْف بقوله :﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ؛ فدلَّت الآيةُ على كَمَال النَّعيم والسُّرور.
الثالثُ : قولُهُ :﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ﴾ هذه الجملةُ معْطُوفة على ما قَبْلها، عَطَف جُمْلَةَ ثوابِ المُؤْمنين، على جملة ثَوَاب الكافرين، وجاز ذلك ؛ لأنَّ مذْهب سِيبَويهِ - وهو الصَّحيحُ - : أنَّه لا يشترطُ في عَطْفِ الجُمَلِ التَّوافُقُ معْنًى، بل تُعْطَف الطلبيَّة على الخَبَرية ؛ وبالعكس ؛ [بدليل] قوله :[الطويل] ٣٠٦ - تُنَاغِي غَزَالاً عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ
وَكَحَّلْ أَمَاقِيكَ الحِسَانَ بِإِثْمِدِ
وقولِ امرِئ القَيْسِ :[الطويل] ٣٠٧ - وإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ
وَهَلْ عِنْدَ رَسْمِ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤٥
وقال ابنُ الخَطِيبِ : ليس الَّذي اعتمد بالعَطْف هو الأَمْر، حتى يطلب له مشاكل من أمر ونهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة ثواب المؤمنين ؛ فهي معطوفة على جملة وَصْف عقاب الكافرين كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والضرب وَبَشِّرْ عمرو بالعفو والإطلاق.
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون عطفاً على " فاتَّقوا " ليعطف أمراً على أمر، وهذا قد رده أبو حيان بأن " فاتقوا " جواب الشرط، فالمعطوف يكون جواباً ؛ لأن حكمَه حكمُه، ولكن لا يصح ؛ لأن تبشيره للمؤمنين لا يترتب على قوله :" فإن لم تفعلوا ".
وقرئ :" وبُشَِّرَ " [ماضياً] مبنيًّا للمفعول.
٤٤٦


الصفحة التالية