و ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ يجوز أن تكون الجملةُ صفةٌ للنَّكِرَةِ قَبْلَهَا، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً.
وأخْبَرَ بلفظ الواحد " أمُّ " عن جمع " هُنَّ " إمَّا لأن المرادَ أن كل واحدةٍ منه أمٌّ، وإمَّا لأن المجموعَ بمنزلة آية واحدةٍ، كقوله :﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون : ٥٠]، وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع، كقوله :﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة : ٧].
وقوله :[الوافر] ١٣٢٢ - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا
...............................
وقوله :[الطويل] ١٣٢٣ - بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأمَّا عِظَامُهَا
فَبِيضٌ وَأمّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨
وقال الأخفش : وَحَّد " أمُّ الْكِتَابِ " بالحكاية على تقدير الجواب، كأنه قيل : ما أمُّ الكتاب ؟ فقال : هن أم الكتاب، كما يقال : مَن نظيرُ زَيْدٍ ؟ فيقول قوم : نحن نظيره، كأنهم حكوا ذلك اللفظ، وهذا على قولهم : دعني من تمرتان، أي : مما يُقَال له : تمرتان.
قال ابنُ الأنباري :" وهذا بعيد من الصواب في الآية ؛ لأن الإضمار لم يقم عليه دليل، ولم تدع إليه حاجةٌ ".
وقيل : لأنه بمعنى أصْل الكتاب، والأصْل يُوَحَّد.
قوله :" وأُخَر " نسق على " آيات " و " متشابهات " نعت لـ " أخر "، وفي الحقيقة " أخر " نعت لمحذوف تقديره : وآيات أخر متشابهات.
قال أبو البقاء : فإن قيل : واحدة [متشابهات : متشابهة، وواحدة أخر : أخرى، والواحد هنا - لا يصح أن يُوصَف بهذا الواحد -، فلا يقال : أخرى متشابهة]، إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضاً، وليس المعنى على ذلك، إنما المعنى أن كل آية تشبه آيةٌ أخرى، فكيف صح وصف هذا الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصْف مفردِه بمفردِه ؟ قيل : التشابهُ لا يكون إلا بين اثنين فصاعداً، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر، فلما لم يصح التشابه إلا في حالةِ الاجتماعِ وُصِفَ الجمعُ بالجمعِ ؛ لأن كل واحد منها يشابه باقيها، فأما الواحد فلا يصح فيه هذا المعنى، ونظيره قوله :﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ﴾ [القصص : ١٥] فثنَّى الضمير، وإن كان الواحد لا
٢٩
يقتتل، يعني أنه ليس من شرط صحة الوصف في التثنية أو الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات، وإن كان الأصل ذلك كما أنه لا يُشترط في إسناد الفعل إلى المثنى والمجموع صحة إسناده إلى كل واحد على حدته، وقريب من ذلك قوله :﴿حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ [الزمر : ٧٥]، وقيل : ليس لِ " حَافينَ " مفرد ؛ لأنه ولو قيل : حافّ لم يَصِحّ ؛ إذ لا يتحقق الحفوف في واحد فقط، إنما يتحقق بجمع يُحيطون بذلك الشيءِ المحفوفِ [وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى].
فصل اعلم أن القرآن الكريمَ كلَّه مُحْكَمٌ من دجهة الإحكام والإتقان والفصاحة وصحة المعاني، وكونه كلاماً حقًّا ؛ لقوله تعالى :﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود : ١]، وقوله :﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس : ١] فهو أفضل من كل كلام يُوجَد في هذه المعاني، ولا يمكن أحد أن يأتي بكلام يساويه فيها، والعرب تقول في البناء الوثيق، والعقد الوثيق الذي لا يمكن حَلُّه : مُحْكَم، وكلُّه متشابه من حيث إنه يشبه بعضهُ بعضاً في الحُسن، ويصدِّقُ بعضُهُ بعضاً ؛ لقوله تعالى :﴿كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ﴾ [الزمر : ٢٣].
وذكر في هذه الآيةِ أن بعضه مُحْكَمٌ، وبعضه متشابه.
واختلف المفسّرون في المحكم - هنا - والمتشابه، فقال ابنُ عباس : المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الانعام، ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام : ١٥١] الآيات، ونظيرها في بني إسرائيل ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا ااْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء : ٢٣].
وعنه أنه قال : المتشابهات : حروف التهجي في أوائل السور.
وقال مجاهد وعكرمة : المحكم : ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه، يشبه بعضه بعضاً في الحق، ويصدق بعضه بعضاً، كقوله :﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة : ٢٦]، وقوله :﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [يونس : ١٠٠].
وقال قتادة والضحاك والسُّديُّ : المحكم : الناسخ الذي يُعْمَل به، والمتشابه : المنسوخ الذي لا يُعْمَل به ويؤمن به، ورَوَى علي بن أبي طلحةَ عن ابن عباس قال :
٣٠