وقوله تعالى :﴿لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ [الزخرف : ٦٠]، وقوله :﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ﴾ [التوبة : ٣٨] ؟ الرابع : أنها تبعيضية، إلا أن هذا الوجه لما أجازه أبو حيّان مبنياً على إعراب " شَيْئاً " مفعولاً به، بمعنى : لا تدفع، ولا تمنع، قال : فعلى هذا يجوز أن يكون " من " في موضع الحال من " شَيْئاً " ؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعتِ له، فلما تقدم انتصب على الحال، وتكون " من " إذ ذاك - للتبعيض.
قال شهاب الدينِ :" وهذا ينبغي أن لا يجوز ألبتة ؛ لأن " منَ " التبعيضية تؤوَّلُ بلفظ بعض مضافةً لما جرَّتْه " مِنْ " ألا ترى أنك إذا قلتَ : رأيت رجلاً من بني تميم، معناه : بعض بني تميم، وأخذت من الدراهم : أي : بعضَ الدراهم، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصْلاً، وإنما يصح جعله صفة لِ " شَيْئاً " إذا جعلنا " مِنْ " لابتداء الغاية، كقولك : عندي درهم من زيد، أي : كائن أو مستقر من زيد، ويمتنع فيها التبعيض، والحال كالصفة في المعنى، فامتنع أن تكون من للتبعيض مع جعله " مِنَ اللهِ " حالاً من " شَيْئاً "، وأبو حيّان تبع أبا البقاءِ في ذلك، إلا أن أبا البقاء حين قال ذلك - قَدَّر مضافاً وضَّح به قوله، والتقدير : شيئاً من عذاب الله، فكان ينبغي أن يتبعه - في هذا الوجهِ - مُصَرِّحاً بما يدفع هذا الذي ذكرته ".
و " شَيْئاً " إما منصوب على المفعول به وقد تقدم تأويله وإما على المصدرية، أي : شَيْئاً من الإغناء.
قوله :﴿وَأُولَـائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾ هذه الجملة تحتمل وجهَيْن :
٥٠
أحدهما : أن تكون مستأنفةً.
والثاني : أن تكون منسوقة على خبر " إنَّ " و " هم " تحتمل الابتداء والفصل.
وقرأ العامة " وَقُودُ " بفتح الواو، والحَسن بِضَمِّها وتقدم تحقيقُ ذلك في البقرة، وأن المصدرية محتملة في المفتوح الواو أيضاً، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويله، فلا حاجة إلى إعادته.
فصل اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنهم كل ما يُنْتَفَعُ به، ثم تجتمع عليه الأسبابُ المؤلمة.
الأول هو المراد بقوله :﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم﴾ ؛ فإن المرء - عند الخطوب - يفزع إلى المال والولد ؛ لأنهما أقربُ الأمور التي يُفْزَع إليها في دَفْع النوائب، فبيَّن تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالِفَةٌ لصفةِ الدنيا، وإذا تعذَّر عليه الانتفاع في ذلك اليوم بالمالِ والولدِ - وهما أقرب الطرق - فما عداه بالتعذُّر أوْلَى، ونظيره :﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء : ٨٨ - ٨٩].
وأما الثاني من أسباب كمال العذاب - وهو اجتماع الأسباب المُؤْلمةِ - فهو المراد بقوله :﴿وَأُولَـائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾ وهذا هو النهايةُ في العذابِ ؛ فإنه لا عذابَ أعظم من أن تشتَعِل النارُ فيم كاشتعالها في الحطب اليابِسِ.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٩
في كاف " كَدَأب " وجهانِ : أحدهما : أنها في محل رَفْع ؛ خَبَراً لِمبتدأ مُضْمَر، تقديره : دأبهم - في ذلك " كَدَأبِ آلِ فِرعَوْن " وبه بدأ الزمخشريُّ، وابنُ عطية.
الثاني : أنها في محل نَصْب، وفي الناصب لها تسعةُ أقوالٍ : أحدها : أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف، والعامل فيه " كَفَرُوا "، تقديره : إنَّ الذين كفروا كُفْراً كدأب آل فرعون، أي : كعادتهم في الكفر، وهو رأي الفرَّاءِ.
وهذا القول مردود بأنه قد أخبر عن الموصول قبل تمام صلته، فلزم الفصلُ بينَ أبْعَاضِ العلةِ بالأجنبيِّ، وهو لا يجوز.
٥١