والرؤية - هنا - فيها رأيان : أحدهما : أنها البصرية، ويؤيد ذلك تأكيده بالمصدر المؤكد، وهو قوله :" رَأيَ الْعينِ ".
قال الزمخشريُّ :" رؤية ظاهرة مكشوفة، لا لبس فيها " ؛ لأن الإدراك عند المعتزلة واجب الحصول عند اجتماع الشرائط، وسلامة الحاسَّةِ، ولهذا اعتذر القاضي عن هذا الموضع [بوجوه] : أحدها : أن عند الاشتغالِ بالمحاربةِ لا يتفرغ الإنسان لأن يُدِيرَ حدقته حول العسكر، وينظر إليهم على سبيل التأمل وثانيها : أنه قد يحصل من الغبار ما يمنع من إدراك البعض.
وثالثها : يجوز أن يقال : إن الله تعالى خلق في الهواء ما منع من إدراك ثلث العسكر، [فعلى هذا]، يتعدى لواحد، ومثليهم نصب على الحالِ.
الثاني : أنها من رؤية القلبِ، فعلى هذا يكون " مِثْلَيهِم " مفعولاً ثانياً، وقد ردّه أبو البقاء فقال : ولا يجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب - على كل الأقوال - لوجهين : أحدهما : قوله :" رأي العين ".
الثاني : أن رؤية القلب علم، ومحال أن يُعْلَمَ الشيء شَيْئَين.
وأجيب عن [الوجه] الأول بأن انتصابهَ انتصابُ المصدر التشبيهي، أي : رأياً مثل رأي العين، أي : يشبه رأي العين، فليس إياه على التحقيق، وعن الثاني بأن الرؤية هنا يُرَاد بها الاعتقاد، فلا يلزم المحال المذكور، وإذا كانوا قد أطلقوا العلم - في اللغة - على الاعتقاد - دون اليقين - فلأن يطلقوا عليه الرأيَ أوْلَى وأحْرَى.
ومن إطلاق العلم على الاعتقاد قوله تعالى :﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ [الممتحنة : ١٠] ؛ إذْ لا سبيلَ إلى العلم اليقيني في ذلك ؛ إذ لا يعلم ذلك إلاَّ اللهُ تعالى، فالمعنى : فإن اعتقدتموهن، والاعتقاد قد يكون صحيحاً، وقد يكون فاسداً، ويدل على هذا التأويل قراءة من قرأ " تُرَوْنَهُمْ " - بالتاء والياء مبنيًّا للمفعول - ؛ لأن قولهم : أرَى كذا - بضم الهمزة - يكون فيما عند المتكلم فيه شك وتخمينٌ، لا يقين وعلم، فلما كان اعتقاد التضعيف في جمع الكفار، أو في جمع المؤمنين تضميناً وظناً ؛ لا يقيناً دخل الكلامَ ضربٌ من الشكِّ، وأيضاً - كما يستحيل حملُ الرؤيةِ هنا على العلم - يستحيل أيضاً حملها على رؤية البصر بعين ما ذكرتم من المحال، وذلك كما أنه لا يقع العلم غيرَ مطابقٍ للمعلوم، كذلك لا يقع النظر البصري غير مطابق لذلك الشيء المُبْصَر المنظور إليه، فكان المراد التخمين والظن، لا اليقين والعلم، كذا قيل، وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم
٦٦
أن البصر لا يخالف المُبْصَر ؛ لجواز أن يحصل خَلَلٌ في البصر، وسوء في النظر، فيتخيل الباصر الشيئَ شيئَيْن فأكثر، وبالعكس.
احتج من قال : إن الرائي هو المشركون بوجوه : الأول : أن تعلُّق الفعل بالفاعل أشدُّ من تعلُّقهِ بالمعفول، فجَعْلُ أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أوْلَى من العكس، وأقرب المذكورين هو قوله :﴿كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ﴾.
الثاني : مُقَدَّمُ الآية - وهو قوله ﴿قَدْ كَانَ لِكُمْ آيَةٌ﴾ خطاب مع الكفار، فقراءة نافع - بالتاء - تكون خطاباً مع أولئك الكفار، والمعنى : تَرَوْنَ يا مشركي قريش المسلمين مثليهم، فهذه القراءة لا تساعد غلا على كون الرائي مشركاً.
الثالث : أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية للكفار حتى تكونَ حُجَّةً عليهم، ولو كانت هذه الحالةُ حاصلة للمؤمن لم يصح جَعْلُها حُجَّةٌ على الكافر.
واحتج من قال : الراءون هم المسلمون بأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤيةُ ما ليس بموجود وهو محال - ولو كان الراءون هم المؤمنين لزم أن لا يرى ما هو موجود، وهذا ليس بمحال فكان أولى، قال ابن مسعودٍ : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علنيا رجلاً واحداً، ثم قللهم الله - أيضاً - في أعينهم حتى رَأوْا عدداً يسيراً أقل من أنفسهم، قال ابن مسعود :" حَتَّى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعينَ ؟ قال : أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفاً ".
فصل وجه النظم أنه - تعالى - لما أنزل الآية المتقدمة في اليهود، وهي قوله :﴿سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾، فدعاهم رسول الله ﷺ إلى الإسلام، أظهروا التمرد، وقالوا : لسنا أمثال قريشٍ في الضعفِ، وقلة المعرفة بالقتال، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما نغلب به كل مَنْ ينازعنا، فقال تعالى : إنكم - وإن كنتم [أغنياء]، أقوياء، أرباب قدرة وعدة فإنكم - ستغلبون، ثم ذكر - تعالى - ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك، فقال :﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾ يعني واقعة بدر ؛ فإن الكثرة والعُدَّة كانت للكفار، والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين، ثم إن الله تعالى قهر الكفارَ، ونصر المسلمين، وهذا يدل على أن النصر بتأييد الله ونصرِه.
٦٧