من سر قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: ٩] فجمع الصديق الخير وكف الشرور، رضي الله عنه وأرضاه. ولهذا روى غير واحد من الأئمة منهم وَكِيع وابن زيد وقبيصة عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن عبد خير، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين (٤). إسناده صحيح.
وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف: حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا عبدة، عن هشام، عن أبيه، أن أبا بكر هو الذي جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ختمه (٥). صحيح أيضا. وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هو الذي تنبه لذلك لما استحر القتل بالقراء، أي اشتد القتل وكثر في قراء القرآن يوم اليمامة، يعني: يوم اليمامة، يعني يوم قتال مسيلمة الكذاب وأصحابه ومن بني حنيفة بأرض اليمامة في حديقة الموت، وذلك أن مسيلمة التف معه من المرتدين قريب من مائة ألف، فجهز الصديق لقتاله خالد بن الوليد في قريب من ثلاثة عشر ألفًا، فالتقوا معهم (٦) فانكشف الجيش الإسلامي لكثرة من فيه من الأعراب، فنادى القراء من كبار الصحابة: يا خالد، يقولون: ميزنا من هؤلاء الأعراب فتميزوا (٧) منهم، وانفردوا، فكانوا قريبا من ثلاثة آلاف، ثم صدقوا الحملة، وقاتلوا قتالا شديدا، وجعلوا يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح الله

(١) صحيح البخاري برقم (٤٩٨٦).
(٢) زيادة من جـ.
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٦٧٩، ٤٩٨٩) والمسند (١/ ١٠) وسنن الترمذي برقم (٣١٠٣) وسنن النسائي الكبرى برقم (٧٩٩٥).
(٤) رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص ١٥٦) وابن أبي داود في المصاحف (ص ١١).
(٥) المصاحف (ص ١٢).
(٦) في جـ: "بهم".
(٧) في جـ: "فميزوا".
عليهم ووَلَّى جيش الكفار (١) فارا، وأتبعتهم السيوف المسلمة في [أقنيتهم] (٢) قتلا وأسرا، وقتل الله مسيلمة، وفرق شمل أصحابه، ثم رجعوا إلى الإسلام، ولكن قتل من القراء يومئذ قريب من خمسمائة، رضي الله عنهم، فلهذا أشار عمر على الصِّديق بأن يجمع القرآن؛ لئلا يذهب منه شيء بسبب موت من يكون يحفظه من الصحابة بعد ذلك في مواطن القتال، فإذا كتب وحفظ صار ذلك محفوظا فلا فرق بين حياة من بلغه أو موته، فراجعه الصديق قليلا ليثبت في الأمر، ثم وافقه، وكذلك راجعهما زيد بن ثابت في ذلك ثم صارا (٣) إلى ما رأياه، رضي الله عنهم أجمعين، وهذا المقام من أعظم فضائل زيد بن ثابت الأنصاري؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا عبد الله بن محمد بن خَلاد، حدثنا يزيد، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن؛ أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله فقيل: كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال: إنا لله، فأمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف (٤)
٣٥@@@


الصفحة التالية
Icon