وإنّما هى قراءة قائمة بإخضاع جميع عناصر المقروءة فى وجود الكليّ للاستبصار: فهى موقف استبصاري إنتاجي من السورة، وهذا يقتضِى من صاحب هذه القراءة التحليلية للسورة أن يتسلل بوعيه فى الوجود اللغوي للسورة يجوس خلاله ويخادنه، فيمتزج وعيه بالسورة مثلما تمتزج السورة بوعيه، وهذا ما يجعل المعنى القرآنيّ للسورة فى صورته الإدراكية لا القصدية يختلف باختلاف وعى المتلقى، فانَّ ثَمَّ علاقةً جدلية بين السورة والمتلقي قائمة على التَّبادل، فهو يأخذُ من السورة مقومات وجودها اللغوى، ويضيف إلى وجودها الدلاليّ من ذاته القائمة بالإيمان والتعلم العميق الفسيح والخبرة وملكة التذوق والاستبصاروالالتزام السلوكيّ وغير ذلك.
وإنى أزعم أنَّ التحليل البيانيّ للسورة القرآنية سبيلٌ من سبل حسن القيام بالاستجابة لأوّل أمر إلهيّ فى دعوة الإسلام
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق: ١)
فما أظن أنَّ الوحى كان يطلب من سيدنا محمد - ﷺ - حينذاك أن يقرأ قراءة تُحِيلُ المسطور مسموعاً، فإنَّه - ﷺ - ما كان إلاَّ أميًّا لا يملك تلك الطاقة المُحِيلة ما هو مسطورٌ إلى مسموع، فضلاً عن أنّه لو كان ذلك هو مراد الأمر بالقراءة فى أول آية نزلت لما كان سيدنا " جبريل " - عليه السلام - بحاجة إلى أن يأخذ بالنبي - ﷺ - فيغطه حتى يبلغ من النبى - ﷺ - الجهد ثلاث مرات، فانَّ مثل هذا لا يليق أن يُفعل حينذاك إلاَّ إذا كان المأمور به شيئاً غير ذلك، تفسّره لنا تَهْيِئَةُ النبي - ﷺ - نفسه له بالاعتكاف والتعبد والتحنّث فى الغار والاعتصام مما يشغله، ويهوش عليه من حركة الحياة المائجة الماجنة تهيئة بتوفيق من ربه - عز وجل - الذى خلق واصطفى، ودونما قصد منه - ﷺ -.


الصفحة التالية
Icon