وإذ ما نظرنا ألفَيْنا النُّزول الأوَّل والثانى كان نزولا جَمْعِيًّا للقرآن الكريم، وكان النزولُ الثَّالثُ نزولاً مُفرَّقا: قد تنزلُ آياتٌ من سورة، فتَتْلوها آياتٌ من سورة أخرى قبل تمام السورة الأولى: ظلت سورة البقرة تتوالى آياتها نزولا سنوات عِدَّة، وكان فى أثناء نزول آياتها تنزل آيات سور آخرى، وكان جبريل - عليه السلام - ينزل بالآية وموضعها من سورتها على النبيّ - ﷺ - فيأمر النبيّ - ﷺ - كتاب الوحى بأن توضع آية كذا فى سورة كذا مُحَدِّدًا موضعها حتَّى إذا ما تم القرآن الكريم نزولاً كانت كلُّ آيةٍ فى كل سورة فى موضعها المحكم، وكذلك كل سورة فى موضعها من النسق الكُلِىِّ للقرآن الكريم على النحو الذى هو عليه فى اللوح المحفوظ وفى بيت العزة من السماء الدُّنْيَا (التنزيل الأوَّل والثانى)
ولذا كانت العرضتان الأخيرتان للقرآن الكريم فى شهر رمضان الأخير من حياة النبيّ - ﷺ - مطابقتين فى ترتيب الآيات والسور لما هو عليه فى اللوح المحفوظ فى بيت العزة، وبذلك تطابقت صورة الترتيب الكليّ للقرآن الكريم فى أطورها التنزيليّة الثلاثة، فما بين أيدينا من صورته الترتيبيَّة آياته وسورة هو ما عليه القرآن الكريم فى اللوح المحفوظ وفى بيت العزة (١)
ولعل هذا بعض من معنى قول الله - سبحانه وتعالى -:
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: ١)
لهذا كان للمعنى القرآنيّ سياقٌ كُلّيٌّ تقع كُلُّ سورةٍ من سُوَرِهِ على مَدْرَجَةٍ من مدارج هذا السياق القرآنى يبدأ هذا السياق بأم الكتاب التى تجمع معانى القرآن الكريم كلِّه فيها فكانت جديرةً بأن تكون أمَّ القرآن وبذلك جاءت السُّنة مؤكدة أنها (أم القرآن) وأنها السبع المثانى والقرآن العظيم.

(١) - ينظر: مقدمتان في علوم القرآن: ص ٣٩، وما بعدها


الصفحة التالية
Icon