فإن قلتم هي قديمة فقد أثبتم معاني قديمة؛ وإن قلتم هي شيء واحد جعلتم كل صفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف فجعلتم كونه حيًا هو كونه عالمًا وجعلتم ذلك هو نفس الذات ومعلوم أن هذا مكابرة وهذه المعاني هي معاني أسمائه الحسنى وهو سبحانه لم يزل متكلمًا إذا شاء.
فهو المسمي نفسه بأسمائه الحسنى كما رواه البخاري (١) في صحيحه عن ابن عباس أنه لما سئل عن قوله: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا) فقال هو سمّى نفسه بذلك وهو لم يزل كذلك؛ فأثبت قدم معاني أسمائه الحسنى وأنه هو الذي سمّى نفسه بها. فإذا قلتم إن أسماءه أو كلامه غيره فلفظ (الغير) مجمل؛ إن أردتم أن ذلك شيء بائنٍ عنه فهذا باطل؛ وإن أردتم أنه يمكن الشعور بأحدهما دون الآخر فقد يذكر الإنسان الله ويخطر بقلبه ولا يشعر حينئذ بكل معاني أسمائه بل ولا يخطر له حينئذ أنه عزيز وأنه حكيم فقد أمكن العلم بهذا دون هذا؛ وإذا أريد بالغير هذا فإنما يفيد المباينة في ذهن الإنسان

(١) برقم (٤١) ولفظه: قَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ إِنِّى أَجِدُ فِى الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَىَّ قَالَ (فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ). (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ). (وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا). (رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) فَقَدْ كَتَمُوا فِى هَذِهِ الآيَةِ، وَقَالَ (أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) إِلَى قَوْلِهِ (دَحَاهَا) فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ) إِلَى (طَائِعِينَ) فَذَكَرَ فِى هَذِهِ خَلْقَ الأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَقَالَ (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) عَزِيزًا حَكِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا، فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى. فَقَالَ (فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ) فِى النَّفْخَةِ الأُولَى ثُمَّ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ، فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِى النَّفْخَةِ الآخِرَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ). (وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ) فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لأَهْلِ الإِخْلاَصِ ذُنُوبَهُمْ وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُولُ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ. فَخَتَمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لاَ يُكْتَمُ حَدِيثًا وَعِنْدَهُ (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيَةَ، وَخَلَقَ الأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، فَسَوَّاهُنَّ فِى يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ، وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْجِمَالَ وَالآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ (دَحَاهَا)، وَقَوْلُهُ (خَلَقَ الأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ) فَجُعِلَتِ الأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَىْءٍ فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَخُلِقَتِ السَّمَوَاتُ فِى يَوْمَيْنِ. (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا) سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ، أَىْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلاَّ أَصَابَ بِهِ الَّذِى أَرَادَ، فَلاَ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.


الصفحة التالية
Icon