قل إن تخفوا ما في صدوركم} من موالاة أعدائه، ﴿أو تبدوه يعلمه الله﴾ ؛ فلا يخفى عليه ما تُكن الصدور من خير أو شر. وقدَّم في سورة البقرة الإبداء، وأخره هنا ؛ لأن المحاسبة لا ترتيب فيها بخلاف العلم، فإن الأشياء التي تبرز من الإنسان يتقدم إضمارها في قلبه ثم تبرز، فقد تعلق علم الله تعالى بها قبل أن تبرز، فلذلك قدَّم هنا الإخفاء لتقدم وجوده في الصدر، وأخره في البقرة، لأن المحاسبة لا ترتيب فيها، ﴿ويعلم ما في السماوات وما في الأرض﴾ فلا يخفى عليه شيء، ﴿والله على كل شيء قدير﴾ ؛ فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا، والآية بيان لقوله :﴿ويحذركم الله نفسه﴾ ؛ لأن الذات العالية متصفة بعلم محيط بجميع المعلومات، وبقدرة تحيط بجميع المقدورات، فلا تجسروا على عصيانه، فإنه ما من معصية إلا وهو مطلع عليها، قادرٌ على العقاب عليها يوم القيامة. ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً﴾ بين يديها تنتفع به، ﴿وما عملت من سوء تود له أن بينها وبينه أمداً بعيداً﴾، كما بين المشرق والمغرب، ولا ينفع الندم وقد زلَّت القدم. ﴿ويحذركم الله نفسه﴾، كرره للتأكيد وزيادة التحذير، وسيأتي في الإشارة حكمة تكريره، ﴿والله رؤوف بالعباد﴾ حيث حذرهم مما يضرهم، وأمرهم بما يقربهم، فكل ما يصدر منه - سبحانه - في غاية الكمال.
الأشارة : لا ينبغي للمريد الصادق أن يخالط أهل الغفلة، ولا يتودد معه ؛ فإن ذلك يقطعه عن ربه، ويصده عن دواء قلبه، وفي ذلك يقول صاحب العينية :
وَقَاطِعْ لِمَنْ وَاصَلْتَ أيَّامَ غَفْلَةٍ
فَمَا وَاصَلَ العُذْالَ إلاَّ مُقَاطِعُ
وَجَانِب جَنَابَ الأَجْنَبِي لَو أنَّهُ
لِقُربِ انْتِسَابِ فِي المَنَامِ مُضَاجع
فَلِلنَّفْسِ مِنْ جُلاَّسِهَا كُلُّ نِسْبَةٍ
وَمِنْ خُلَّةٍ لِلْقَلْبِ تِلْكَ الطَّبَائِعُ
٣٠٨


الصفحة التالية
Icon