الإشارة : لما انفصلت الأرواح من عالم الجبروت، كانت على الطهارة الأصلية، والنزاهة الأزلية، عالمة بأسرار الربوبية وعظمة الألوهية، لكن لم يكن لها إلا جنة الحرية، دون جنة العبودية، فلما أراد الحق تعالى أن يمتعها بجنتين عن يمين وشمال، أمرها بالنزول إلى أرض العبودية، في ظلل من غمام البشرية، فمنَّ عليها بحلاوة المشاهدات وسلوان المناجات، وقال لها :﴿كلوا منطيبات ما رزقناكم﴾ من طرائف العلوم، وفواكه الفهوم، هذا لمن اعتنى بروحه فاستكمل فضيلتها، وخالف هواها، فنفذت من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، فلم تنحجب بسحب الآثار إلى نفوذ شهود الأنوار، بل غابت عن شهود الآثار بشهود الأنوار. أما من حجبت عن شهود الأنوار بالوقوف مع الآثار، ووقعت في شبكة الحظوظ والشهوات، وربطت بعقال الأسباب والعادات، فقد ظلمت نفسها، وبخست حقها من مشاهدة مولاها، حتى استعت عليها دائرة الحس، ولم تنفذ إلى المشاهدة والأنس. وأنشدوا :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٧
كَمِّلْ حقيقتك التي لم تكمُلِ
والجسمَ ضَعْهُ في الحضِيض الأسفلِ
أَتُكَمِّلُ الفَانِي وَتَتْرُك باقياً
هَمَلاً، وأَنت بأمرِه لم تحفلِ ؟
فالجسمُ للنفس النفيسةِ آلةٌ
ما لَمْ تُحَصِّلْه بها لم يحْصُلِ
٨٨
يَفْنَى، وتَبقى دائماً في غِبْطةٍ
أو شِقْوةٍ وندامة لا تنْجَلِي
أُعْطِيتَ جِسْمَكَ خادماً فخدمْتَه
أَتُمَلِّكُ المفضولَ رِقَّ الأفضلِ ؟
شَرَكٌ كثيفٌ أنتَ في أحْبَالِهِ
مَا دام يُمكنك الخَلاصَ فَعَجِّلِ
مَنْ يستطيعُ بلوغَ أَعْلَى مَنزلٍ
ما بالَهُ يرضَى بأدنَى مَنْزِل!
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٧
قلت :﴿حِطة﴾ : خبر مبتدأ مضمر، أي : أمرنا حطة، أي : تواضع وانحطاط، وقال هنا :(فكلوا)، وفي الأعراف بالواو ؛ لأن الأكل مرتب على الدخول، بخلاف السكنى، فإنها تفارق الأكل، فكأنه مأمور به.