فإن قلت : هذا التفصيل أعم من المفصل، لأن الحشر إنما ذكر للمتكبرين والتفصيل أعم، فالجواب : أن عموم المفصل يفهم من قوة الكلام، فكأنه قال : فسيحشرهم للمجازاة يوم يجازي عباده جميعًا، ﴿فأما الذين آمنوا...﴾ الخ، نظيره : قولك : جمع الأمير كافة مملكته، فأما العلماء فأكرمهم، وأما الطغاة فقطعهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : العبودية أشرف الحالات وأرفع المقامات، بها شرف من شرف، وارتفع من ارتفع، عند الله، وما خاطب الله أحباءه إلا بالعبودية، فقال تعالى :﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾ [الإسرًاء : ١]، وقال :﴿وَاذْكُرْ عَبدَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ [صَ : ٤٥]، ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ﴾ [صَ : ١٧]، ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيْوُّبَ﴾ [صَ : ٤١]، ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [صَ : ٣٠]... إلى غير ذلك.
وأوصاف العبودية أربعة : الذل، والفقر، والضعف، والجهل. ومقابلها من أوصاف الربوبية أربعة : العز، والغنى والقوة والعلم، فبقدر ما يُظهر العبد من أوصاف العبودية يمده الحق من أوصاف الربوبية، فبقدر ما يظهر العبد من الذل يمده من العز، وبقدر ما يظهر من الفقر يمده بالغنى، وبقدر ما يظهر من الضعف يمده من القوة، وبقدر ما يظهر من الجهل يمده من العلم، تحقق بوصفك يمدك بوصفه، ولا يتحقق ظهور هذه الأوصاف إلا بين عباده لتمتحق بذلك أوصاف النفس.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٣٥
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم﴾ وهو الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وما اقترن به من المعجزات الواضحات، ﴿وأنزلنا إليكم﴾ على لسانه ﴿نورًا مبينًا﴾ وهو القرآن : أو جاءكم برهان من ربكم : المعجزات الطاهرة، ﴿وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا﴾ : القرآن العظيم، أي : جاءكم دليل العقل وشواهد النقل، فلم يبق لكم عذر ولا علة.