ثم قال تعالى :﴿وهو يُدرك الأبصارَ﴾ أي : يحيط علمه بها ؛ إذ لا تخفى عليه خافية، ﴿وهو اللطيف الخبير﴾ فيدرك ما لا تدركه الأبصار، ويجوز أن يكون تعليلاً للحُكمَين السابقين على طريق اللفّ، أي : لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير، فيكون اللطيف مقابلاً للكثيف، لا يُدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها. قاله البيضاوي وأبو السعود.
الإشارة : اعلم أن الحق جل جلاله قد تجلى لعباده في مظاهره الأكوان، لكنه لحكمته وقدرته، قد تجلى بين الضدين، بين الأنوار والأسرار، بين الحس والمعنى، بين مظهر الربوبية والب العبودية، فالأنوار ما ظهر من الأواني، والأسرار ما خَفِيَ من المعاني، فالحس ما يُدرك بحاسة البصر، والمعنى ما يُدرك بالبصيرة. فالحس رداء للمعنى، فمن فتح الله بصيرته استولى نورُ بصيرته على نور بصره، فأدرك المعاني خلف رقة الأواني، فلم تحجبه الأواني عن المعاني، بل تمتحق في حقه الأواني، ولا يرى حينئذٍ إلا المعاني. لذلك قال الحلاج، لما سئل عن المعرفة، قال :(استهلاك الحس في المعنى). فإذا فَنِيَ العبد عن شهود حِسِّه بشهود معناه، غاب وجوده في وجود معبوده، فشاهد الحقَّ بالحق. فالعارفون لَمَّا فنوا عن أنفسهم، لا يقع بصرهم إلا على المعاني، فهم يشاهدون الحق عيانًا. ولذلك قال شاعرُهم :
مُذَ عَرَفت الإله لَم أرَ غَيرًا
وعذَا الغَيرُ عِنَدنَا مَمنُوعُ
وقال في الحِكَم :" ما حَجَبَكَ عن الحَقِّ وجُودُ مَوجُودٍ مَعَه ؛ إذ لا شَيءَ مَعَهَ، وَإنَّما حَجَبك تَوّهُّمُ مَوُجُودٍ مَعَهُ ".