ثم ذكر دعاءهم فقال :﴿الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية﴾ أي : مكة ﴿الظالم أهلها﴾ بالشرك والطغيان حتى تعدى إلى النساء والصبيان. ﴿واجعل لنا من لدنك وليًّا﴾ يصوننا عن أذاهم، ﴿ونصيرًا﴾ يمنعنا من التخلف عن الهجرة إلى رسولك ﷺ، فاستجاب الله دعاءهم بأن يسَّر لبعضهم الخروج إلى المدينة، وجعل لمن بقي منهم أعظم ولي وناصر، بفتح مكة على نبيه ﷺ، فتولاهم ونصرهم، واستعمل عليهم عتَّاب بن أسيد، فحماهم وأعزهم حتى صارو أعزاء أهلها، كما هي عادته سبحانه في إجابة دعاء المضطرين.
٦٩
الإشارة : ما لكم يا معشر العِباد، وخصوصًا المريدين من أهل الجد والاجتهاد، لا تجاهدون نفوسكم في طريق الوصول إلى الله، كي تنالوا بذلك مشاهدة جماله وسناه، وتخلصوا ما كمن في نفوسكم من الأسرار، وما احتوت عليه من العلوم والأنوار. فإن قرية البشرية قد احتوت عليها وأسرتها بظلمات شهواتها، واستضعفتها بتراكم غفلتها وتكثيف حجاب حسها. فمن جاهدها استخلص جواهر تلك العلوم والأسرار مِن صَدَفِها. وفي ذلك يقول ابن البنا في مباحثه :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٩
ولم تزل كُلُّ النُّفُوسِ الأحيا
عَلاَّمة درَّاكة للأشيَا
وإنما تَعُوقُها الأبدَان
والأنفس النزع والشَّيطَان
فكلُّ مَن أذَاقَضهم جهادَه
أظهرَ للقاعد خَرقَ العاده
وقال أيضًا :
وَهِيَ مِن النفوس في كُمُون
كما يكون الحَبُّ في الغُصُون
فالرجال : الأسرار والأنوار، والنساء : العلوم والأذكار، والولدان : الحكم بنات الأفكار. فكل هؤلاء مستضعفون تحت قهر البشرية الظالم أهلها. ومن الأنفس النزع والشياطين المغوية، فكل من جاهد هؤلاء القواطع أظهر تلك العلوم والأنوار السواطع، واستخلص رُوحه من أسر حجاب الأكوان، وأفضى إلى فضاء الشهود والعيان. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.