وفي الإحياء : كل من نسي الله أنساه ـ لا محالة ـ نفسه، ونزل إلى رتبة البهائم، وترك الترقي إلى أُفق الملأ الأعلى، وخان في الأمانة التي أودعها له تعالى، وأنعم بها عليه، وكان كافراً لنعمته، ومتعرضاً لنقمته ؛ فإن البهيمة تتخلص بالموت، وأما هذا فعنده أمانة سترجعُ ـ لا محالة ـ إلى مُودعها، فإليه مرجع الأمانة ومصيرها، وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة، وإنما هبطت إلى هذا القالب الفاني وغربت فيه، وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها، وتعود إلى بارئها وخالقها، إما مظلمة مُنكسة، وإما زاهرة مشرقة، والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية، والمظلمة أيضاً راجعة إلى الحضرة ؛ إذ المرجع ومصير الكل إليه، إلا أنها ناكسة رؤوسها عن جهة أعلى عليين، إلى جهة أسفل سافلين، ولذلك قال تعالى :﴿وَلَوْ تَرَىا إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [السجدة : ١٢] فبيَّن أنهم عند ربهم منكسون منحوسون، قد انقلبت وجوههم إلى
١٤٠
اقفيتهم، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل، وذلك حكم الله تعالى فيمن حَرمَهُ توفيقه، ولم يهده طريقه فنعوذ بالله من الضلال والنزول في منازل الجُهال. هـ.
قلت : ظاهر كلامه : أن الروح لا ترجع إلى وطنها وتتصل بحضرة ربها إلا بعد خراب هذا البدن، والحق إنها ترجع لأصلها، وتتصل بحضرة ربها مع قيام هذا البدن ؛ إذا كمل تطهيرها وتمت تصفيتها من بقايا الحس، وانقطع عنها علائق هذا العالم الجسماني، فتتصل حينئذٍ بالعالم الروحاني، مع قيام العالم الجسماني، كما هو مقرر عند أهل التحقيق، والله تعالى أعلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٣٩


الصفحة التالية
Icon