ثم وصاهم ﴿وقال﴾ لهم :﴿يا بَنيّ لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ وادخلوا من أبواب متفرقةٍ﴾. وكانت في ذلك العهد خمساً : باب الشام، وباب المغرب، وباب اليمن، وباب الروم، وباب طَيْلون. فقال لهم : ليدخل كل أخوين من باب، خاف عليهم العين ؛ لأنهم أهل جمال وأُبَّهة، مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة ؛ فإذا دخلوا كبكبة واحدة أصابتهم العين. ولعل لم يوصهم بذلك في المرة الأولى ؛ لأنهم كانوا مجهولين حينئذٍ، وللنفس آثار من العين، وقد قال عليه الصلاة والسلام :" العَينُ حَقٌّ تُدخِل الرَّجُلَ القَبرَ والجَمَلَ القِدرَ ". وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ منها، بقوله :" اللهم إنِّي أَعُوذ بك مِن كَلِّ نَفسٍ هَامَّةٍ، وعَينٍ لامَّةٍ " يؤخذ من الآية والحديث : التحصن منها قياماً برسم الحكمة. والأمر كله بيد الله. ولذلك قال يعقوب عليه السلام :﴿وما أغني عنكم من الله من شيء﴾ مما قُضي عليكم بما أشرت به عليكم، والمعنى : أن ذلك لا يدفع من قدر الله شيئاً، فإن الحذر لا يمنع القدر، ﴿إن الحُكم إلا لله﴾ فما حكم به عليكم لا ترده حيلة، ﴿عليه توكلتُ وعليه فليتوكل المتوكلون﴾ أي : ما وثقت إلا به، ولا ينبغي أن يثق أحد إلا به. وإنما كرر حذف الجر ؛ زيادة في الاختصاص ؛ ترغيباً في التوكل على الله والتوثق به.
الإشارة : رُوي أن إخوة يوسف لما رجعوا عنه صاروا لا ينزلون منزلاً إلا أقبل عليهم أهل ذلك المنزل بالكرامات والضيافات، فقال شمعون : لما قدمنا إلى مصر ما التفت إلينا أحد، فلما رجعنا صار الناس كلهم يكرموننا ؟ فقال يهوذا : الآن أثر الملك عليكم، ونور حضرته قد لاح عليكم. هـ. قلت : وكذلك من قصد حضرة العارفين لا يرجع إلا محفوفاً بالأنوار، معموراً بالأسرار، مقصوداً بالكرامة والإبرار.
٢٩٢


الصفحة التالية
Icon