يقول الحق جل جلاله :﴿وتولّى﴾ يعقوب عن أولاده، أي : أعرض ﴿عنهم﴾ لما لم يصدقهم، كراهةً إما صادف منهم، ورجع إلى تأسفه ﴿وقال يا أسَفَا﴾ أي : يا شدة حزني ﴿على يوسف﴾. وإنما تأسف على يوسف دون أخويه لأن محبته كانت أشد ؛ لإفراط محبته فيه، ولأن مصيبته سبقت عليهما. ﴿وابيضَّتْ عيناه﴾ من كثرة البكاء ﴿من الحُزن﴾، كأَنَّ العَبْرَةَ محقت سوادها، وقيل : ضعف بصره، وقيل : عمي. وقد رُوي أنه :" حَزِنَ يعقُوب حُزْن سبعين ثَكْلَى، وأُعطِي أَجر مائَة شَهيدٍ، وما ساءَ ظَنّه بالله قَطّ ".
وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع. ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف، فإنه قلَّ من يملك نفسه عند الشدائد، وقد بكى رسول الله ﷺ وقال :" القلْبُ يَحْزَنُ، والعَيْنُ تَدمَعُ، ولا نَقُولُ إلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا، وإنَّا على فِراقِكَ يا إبراهِيمُ لَمَحْزُونون ". ﴿فهو كظيم﴾ أي : مملوء غيظاً على أولاده ؛ لما فعلوا. أو كاظم غيظه، ماسك له، لم يظهر منه شيئاً، ولم يَشْكُ لأحد.
﴿قالوا تاللهِ تَفْتَؤا﴾ : لا تزال ﴿تذكرُ يوسفَ﴾ تفجعاً عليه، ﴿حتى تكون حَرَضاً﴾ : مشرفاً على الهلاك، ﴿أو تكون من الهالكين﴾ : من الميتين. ﴿قال إنما أشكو بَثّي﴾ أي :
٣٠٠
شدة همي ﴿وحزني﴾ الذي لا صبر عليه، ﴿إلى الله﴾ لا إلى أحد منكم ولا غيركم ؛ فَخَلّوني وشِكَايتي، فلست مِمَّن يجزع ويَضْجَر ؛ فيستحق التعنيف، وإنما أشكو إلى الله، ولا تعنيف فيه ؛ لأن فيه إظهار الفقر، والعجر بين يديه، وهو محمود. ﴿وأعلمُ من الله ما لا تعلمون﴾ أي : أعلم من لطف الله ورأفته ورحمته، ما يوجب حسن ظني وقوة رجائي، وأنه لا يخيب دعائي، ما لا تعلمون. أو : وأعلم من طريق الوحي من حياة يوسف ما لا تعلمون ؛ لأنه رأى ملك الموت فأخبره بحياته، كما تقدم. وقيل : علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى تخر له إخوته سُجّداً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠٠


الصفحة التالية
Icon