ولقد بالغ الحق تعالى في التوصية بالوالدين ؛ حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه، ونظمهما في سلك القضاء بعبادته، ثم ضيق في برهما حتى لم يُرخص في أدنى كلمة تتفلت من المتضجر، وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كلَّ شيء مشبهة بتربيتهما. وعن النبي ﷺ أنه قال :" رِضَا اللهِ في الوَالِدَين، وَسَخَطُهُ في سَخَطِهِمَا " ورُوي : أن رجلاً قال لرسول الله ﷺ : إن أبَويَّ بَلَغَا مِنْ الكِبَر إلى أنِّي ألي منهما ما وَلَيَا مِنِّي في الصغر، فهل قضيتهما حقهما ؟ قال :" لا ؛ فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما " ورُوي أن شيخًا أتى النبي ﷺ فقال : إن ابني هذا له مال كثير، ولا ينفق عليّ من ماله شيئًا، فنزل جبريل وقال : إن هذا الشيخ أنشأ في ابنه أبياتًا، ما قُرعَ سَمْعٌ بمثلها، فاستنشدها، فأنشدها الشيخ، فقال :
غَذَوْتُك مَوْلُودًا ومُنْتُك يَافعًا
تُعلُّ بما أُجْرِي عليك وتَنْهَلُ
إذَا لَيْلةٌ ضَافَتْك بالسُّقْمِ لَم أَبِتْ
لسُقْمِكَ إلا باكِيًا أَتَملْمَلُ
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٥
كَأَنِّي أنا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بالذي
طُرِقتَ به دُونى وعَيْنِيَ تمْهَلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغَايَةَ الَّتي
إليْها مَدَى مَا كُنْتُ فِيك أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جزَائي غلْظَةً وفَظَاظَةً
كأَنّك أنتَ المُنْعمُ الْمُتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ إذ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبوَّتي
فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المجاورُ يَفْعَلُ


الصفحة التالية
Icon