﴿وإِنا لجاعلون ما عليها﴾ ؛ عند تناهي الدنيا ؛ ﴿صعيدًا جُرُزًا﴾ أي : ترابًا يابسًا، لا نبات فيه، بعدما كان يَتَعجب من بهجته النظارُ، ويتشرف بمشاهدته الأبصار، فلا يغتر بما يذهب ويفنى إلا من لا عقل له، فلا تستغرب إدبارهم، إذ لا عقل لهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٩
ويحتمل أن يكون تسليةً للنبي ﷺ ؛ من حيث إنه أرشده إلى شهود تدبير الحق، فيسلو، بذلك عن إعراضهم ؛ لغيبته في المصور المدبر عن الصور، وعن الزينة في المُزَيِّن فالكون مظهر الصفات ومرآتها، ويغيب في الذات - التي هي معدنها - بإفناء الظاهر، وإفناء الأفعال، كما نبّه عليه بقوله :﴿وإِنا لجاعلون...﴾ الخ.
الإشارة : الخصوصية - من حيث هي - لها بداية ونهاية، فمن شأن أهل بدايتها : الحرص على الخير لهم ولعباد الله، فيتمنون أن الناس كلهم خصوص أو صالحون، فإذا رأوا الناس أعرضوا عنها تأسفوا عليهم، وإذا أقبلوا عليهم فرحوا من أجلهم، زيادة في الهداية لعباد الله، فإذا تمكنوا منها ورسخت أقدامهم فيها، وحصل لهم الفناء الأكبر، لم يحرصوا على شيء، ولم يتأسفوا من فوات شيء، لهم ولغيرهم. وقد يتوجه العتاب لهم على الحرص في بدايتهم ؛ تكميلاً لهم، وترقية إلى المقام الأكمل.
وقوله تعالى :﴿إنا جعلنا ما على الأرض...﴾ الخ، هو حكمة تخلف الناس عن الخصوصية، حتى يتميز الطالب لها من المعرض عنها، فمن أقبل على زينة الدنيا وزهرتها، فاتته الخصوصية، وبقي من عوام الناس، ومن أعرض عنها وعن بهجتها، وتوجه بقلبه إلى الله، كان من المخصوصين بها، المقربين عند الله.
١٤٠
وهذا هو أحسن الأعمال التي اختبر الله به عباده بقوله :﴿لنبلوهم أيهم أحسن عملاً﴾، وفي الحديث :" الدنيا مال مَنْ لاَ مَالَ لَه، لَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَه. وعليها يُعَادِي مَنْ لاَ عِلْمَ عِنْدَه " وفي الزهد والترغيب أحاديث كثيرة مفردة بالتأليف، وبالله التوفيق.


الصفحة التالية
Icon