يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿وكذلك﴾ أي : وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلاء والتحلل، وكان ذلك آية دالة على كمال قدرتنا، ﴿بعثناهم﴾ من النوم ﴿ليتساءلوا بينهم﴾ أي : ليسأل بعضُهم بعضًا، فيترتب عليه ما فصّل من الحِكَم البالغة، أو : ليتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيزدادوا يقينًا على كمال قدرة الله، ويستبصروا أمر البعث، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم.
﴿قال قائلٌ منهم﴾ هو رئيسهم، واسمه :" مكْسلَيمنيا " :﴿كم لبثتمْ﴾ في منامكم ؟ لعله قال ذلك ؛ لِمَا رأى من مخالفة حالهم، لِمَا هو المعتاد في الجملة، ﴿قالوا﴾ أي : بعضهم :﴿لبثنا يومًا أو بعض يوم﴾، قيل : إنما قالوا ذلك ؛ لأنهم دخلوا الكهف غُدوة، وكان انتباههم آخر النهار، فقالوا :﴿لبثنا يومًا﴾، فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعدُ قالوا :﴿أو بعض يوم﴾، وكان ذلك إخبارًا عن ظنِّ غالب، فلم يُعْزَوْا إلى الكذب.
﴿قالوا﴾ أي : بعضٌ آخر منهم، بما سنح له من الأدلة، ولِمَا رأى من طول أظافرهم وشعورهم :﴿ربكُم أعلمُ بما لبثتم﴾ أي : أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله - سبحانه -، وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من حسن الأدب، ﴿فابعثوا أحَدكم بورقكم هذه إِلى المدينة﴾، أعرضوا عن البحث عن المدة، وأقبلوا على ما يهم في الوقت، والورق : الفضة، مضروبة أو غير مضروبة، ووصْفُها باسم الإشارة يقتضي أنها كانت معينة ليشتري بها قوت ذلك اليوم، وحملها دليل على أن التزود لا ينافي التوكل، وقد كان نبينا ﷺ يتزود لغار حراء ليتعبد فيه. ثم قالوا :﴿فلينظر أيُّها﴾ أي : أيُّ أهلها ﴿أزكى طعامًا﴾ أي : أحل وأطيب، أو أكثر وأرخص، ﴿فليأتِكُمْ برزقٍ منه﴾ أي : من ذلك الأزكى طعامًا، ﴿وليتلطف﴾ : وليتكلف اللطفَ في دخول المدينة وشراء الطعام، لئلا يُعرف، ﴿ولا يُشْعِرَنَّ بكم أحدًا﴾ ؛ ولا يخبر بكم ولا بمكانكم أحدًا من أهل المدينة، أو : لا يفعل ما يؤدي إلى ذلك.


الصفحة التالية
Icon