فلما سوّى بين الجبلين بالبناء، ﴿قال﴾ للعَمَلة :﴿انفخوا﴾ النيران في الحديد المبني، ففعلوا ﴿حتى إذا جعله﴾ أي : المنفوخ فيه ﴿نارًا﴾ أي : كالنار في الحرارة والهيئة. وإسناد الجعل إلى ذي القرنين، مع أنه من فعل العملة ؛ للتنبيه على أنه العمدة في ذلك، وهم بمنزلة الآلة. ﴿قال﴾ للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها :﴿آتُوني أُفرغ عليه قِطْرًا﴾ أي : آتوني نحاسًا مُذابًا أُفرغه عليه، وإسناد الإفراغ إلى نفسه، لِمَا تقدم.
﴿فما اسطاعوا﴾ أي : استطاعوا ﴿أن يَظْهَرُوه﴾ أيْ : يعلوه بالصعود لارتفاعه، والفاء فصيحة، أي : ففعلوا ما أمرهم به من إيتاء القطر، فأفرغوه عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض، فصار جبلاً صلَدًا، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه أو ينتقبوه ﴿فما
١٩٧
اسطاعوا أن يَظْهَرُوه﴾
؛ لارتفاعه وملاسته، ﴿وما استطاعوا له نَقْبًا﴾ ؛ لصلابته، وهذه معجزة له ؛ لأن تلك الزُبَر الكبيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر أحد أن يجول حولها، فضلاً عن إفراغ القطر عليها، فكأنه تعالى صرف النار عن أبدان المباشرين للأعمال. والله على كل شيء قدير.
﴿قال﴾ ذو القرنين، لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم :﴿هذا﴾ أي : السد، أو تمكينه منه، ﴿رحمةً﴾ عظيمة ﴿من ربي﴾ على كافة العباد، لا سيما على مجاوريه، وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق، بل هو إحسان إلهي محض، وإن ظهر بمباشرتي. والتعرض لوصف الربوبية ؛ لتربية معنى الرحمة.
﴿فإذا جاء وعدُ ربي﴾ : وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج، أو بقيام الساعة ؛ بأن شارف قيامُها، ﴿جعله﴾ أي : السد المذكور، مع متانته ورصانته، ﴿دكّاءَ﴾ : مدكوكًا مبسوطًا مستويًا بالأرض، وفيه بيان عظمة قدرته تعالى، بعد بيان سعة رحمته، ﴿وكان وعد ربي حقًا﴾ : كائنًا لا محالة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٩٥


الصفحة التالية
Icon