ثم قال :﴿ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًّا﴾ أي : لم أكن بدعائي إياك خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل، بل كنت كلما دعوتك استجبتَ لي. توسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه، لعله يشفع له ذلك بمثله، إثر تمهيد ما يستدعي ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال. والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع، ولذلك قيل : من أراد أن يُستجاب له فليدعُ الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته.
ثم قال :﴿وإِني خفتُ الموالي﴾ أي : الأقارب، وهم : بنو عمه، وكانوا أشرار بني إسرائيل، فخاف ألا يحسنوا خلافته في أمته، فسأل الله تعالى ولدًا صالحًا يأمنه على أمته. وقوله :﴿من ورائي﴾ : متعلق بمحذوف، أي : جور الموالي، أو مما في الموالي من معنى الولاية، أي : خفت أن يلوا الأمر من ورائي، ﴿وكانت امرأتي عاقرًا﴾ : لا تلد من حين شبابها، ﴿فهبْ لي من لدنك﴾ أي : أعطني من محض فضلك الواسع، وقدرتك الباهرة، بطريق الاختراع، لا بواسطة الأسباب العادية ؛ لأن التعبير بِلَدُنَ يدل على شدة الاتصال والالتصاق، ﴿وليًّا﴾ : ولدًا من صُلبي، يلي الأمر من بعدي.
والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن ما ذكره عليه السلام من كبر السن وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عن الولد بتوسط الأسباب، فاستوهبه على الوجه الخارق للعادة، ولا يقدح في ذلك أن يكون هنالك داعٍ آخر إلى الإقبال على الدعاء المذكور، من مشاهدته للخوارق الظاهرة عند مريم، كما يعرب عنه قوله تعالى :﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ [آل عِمرَان : ٣٨]. وعدم ذكره هنا اكتفاء بما تقدم، فإن الاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من النكتة التنزيلية. وقوله :﴿يرثني﴾ : صفة لوليًّا، وقرئ بالجزم هو وما عطف عليه جوابًا للدعاء، أي : يرثني من حيث العلم والدين والنبوة، فإن الأنبياء - عليه السلام - لا يورثون من جهة
٢٠٩