فهذا آخر كلام عيسى عليه السلام، وهو أحد من تكلم في المهد، وقد تقدم ذكرهم في سورة يوسف نظمًا ونثرًا. وكلهم معروفون، غير أن ماشطة ابنة فرعون لم تشتهر حكايتها. وسأذكرها كما ذكرها الثعلبي. قال : قال ابن عباس :(لما أسري بالنبي ﷺ مرت به ريح طيبة فقال : يا جبريل ما هذه الرائحة ؟ قال : رائحة ماشطةِ بنتِ فرعون، كانت تمشطها، فوقع المشط من يدها، فقالت : بسم الله، فقالت ابنته : أبى ؟ فقالت : لا، بل ربي وربك ورب أبيك. فقالت : أُخبر بذلك أبي ؟ قالت : نعم، فأخبرته فدعاها، وقال : من ربك ؟ قالت : ربي وربك في السماء، فأمر فرعون ببقرة - أي : آنية عظيمة من نحاس - فَأُحْمِيَتْ، ودعاها بولدها، فقالت : إن لي إليك لحاجةً، قال : وما حاجتك ؟ قالت : تجمع عظامي وعظامَ ولدي فتدفنها جميعًا، قال : وذلك لك علينا من الحقّ، سأفعل ذلك لك، فأمر بأولادها واحدًا واحدًا، حتى إذا كان آخر ولدها، وكان صبيًا مرضَعًا، قال : اصبري يا أمه... فألقاها في البقرة مع ولدها. هـ.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١٦
الإشارة : يؤخذ من الآية أمور صوفية، منها : أن الإنسان يُباح له أن يستتر في الأمور التي تهتك عرضه، ويهرب إلى مكان يُصان فيه عرضه، إلا أن يكون في مقام الرياضة والمجاهدة، فإنه يتعاطى ما تموت به نفسه، ومنها : أنه لا بأس أن يلجأ الإنسان
٢٢٠
إلى ما يخفف آلامه ويسهل شدته، ولا ينافي توكله. ومنها : أن لا بأس أن يتمنى الموت إذا خاف ذهاب دينه أو عرضه، أو فتنة تحول بينه وبين قلبه. ويُؤخذ أيضًا من الآية : أن فزع القلب عند الصدمة الأولى لا ينافي الصبر والرضا ؛ لأنه من طبع البشر، وإنما ينافيه تماديه على الجزع.