ثم دعاء إلى اتباعه ؛ لأنه على المنهاج القويم، مُصدّرًا للدعوة بما مرَّ من الاستعطاف والاستمالة، حيث قال :﴿يا أبتِ إِني قد جاءني من العلم ما لم يأتِكَ﴾، لم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط، وإن كان في أقصاه، ولا نفسه بالعلم الفائق، وإن كان في أعلاه، بل أبرز نفسه في صورة رفيق له، أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق، فاستماله برفق، حيث قال :﴿فاتّبِعْنِي أَهدِكَ صراطًا سوِيًّا﴾ أي : مستقيمًا موصلاً إلى أسمى المطالب، منجيًا من الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب. ثم ثبّطه عما كان عليه من عبادة الأصنام، فقال :﴿يا أبتِ لا تعبدِ الشيطانَ﴾، فإن عبادتك للأصنام عبادة له، إذ هو الذي يُسولُها لك ويغريك عليها، ثم علل نهيه فقال :﴿إِن الشيطان كان للرحمن عَصِيًّا﴾، فهو تعليل لموجب النهي، وتأكيد له ببيان أنه مستعصٍ على ربك، الذي أنعم عليك بفنون النعم، وسينتقم منه فكيف تعبده ؟.
والإظهار في موضع الإضمار ؛ لزيادة التقرير، والاقتصارُ على ذكر عصيانه بترك السجود من بين سائر جناياته ؛ لأنه ملاكها، أو لأنه نتيجة معاداته لآدم وذريته، فتذكيره به داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته. والتعرض لعنوان الرحمانية ؛ لإظهار كمال شناعة عصيانه.
٢٢٥
وقوله :﴿يا أبتِ إِني أخاف أن يمسّك عذابٌ من الرحمن﴾ تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان، وهو اقترانه معه في الهوان الفظيع. و ﴿من الرحمن﴾ : صفة لعذاب، أي : عذاب واقع من الرحمن، وإظهار ﴿الرحمن﴾ ؛ للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب، كما في قوله تعالى :﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ [الانفطار : ٦]، ﴿فتكون للشيطان وليًّا﴾ أي : فإذا قرنت معه في العذاب تكون قرينًا له في اللعن المخلد. فهذه موعظة الخليل لأبيه، وقد استعمل معه الأدب من خمسة أوجه :
الأول : ندائه : بيا أبت، ولم يقل يا آزر، أو يا أبي.
الثاني : قوله ﴿ما لا يسمع...﴾ الخ، ولم يقل : لِمَ تعبد الخشب والحجر.