ثم طلبوا المعارضة، فقالوا :﴿يا موسى إِما أن تُلقي﴾ ما تلقيه أولاً، ﴿وإِما أن نكون أول من ألقى﴾ ما نلقيه. خيروه عليه السلام فيما ذكر ؛ مراعاة للأدب، لما رأوا عليه من مخايل الخير، وإظهارًا للجلادة، ﴿قال بل أَلْقُوا﴾ أنتم أولاً، مقابلة لأدبهم بأحسن منه، فَبَتَّ القول بإلقائهم أولاً، وإظهارًا لعدم المبالاة بسحرهم، ومساعدة لما أوهموا من الميل إلى البدء، وليستفرغوا أقصى جهدهم وسعيهم، ثم يُظهر اللهُ سبحانه سلطانه، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه كما تعودَ من ربه.
فألقوا ما عندهم، ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِم أَنَّهَا تَسْعَى﴾ أي : ففوجئ موسى، وتخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت، فخيل إليه أنها تتحرك. قلت : هكذا ذكر كثير من المفسرين. والذي يظهر أن تحريكها إنما كان من تخييل السحر الذي يقلب الأعيان في مرأى العين، كما يفعله أهل الشعوذة، وهو علم معروف من علوم السحر، ويدل على ذلك ما ورد أنها انقلبت حيات تمشي على بطونها، تقصد موسى
٢٨٧
عليه السلام، فكيف يفعل الزئبق هذا ؟ قال ابن جزي : استدل بعضهم بهذه الآية أن السحر تخييل لا حقيقة له. هـ.
﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً﴾ أي : خوفًا، ﴿موسى﴾ : أي : أضمر في نفسه بعض خوف، من جهة الطبع البشري المجبول على النفرة من الحيات، والاحتراز من ضررها. وقال مقاتل : إنما خاف موسى، إذ صنع القوم مثل صنيعه، بأن يشكُّوا فيه، فلا يتبعوه، ويشك فيه من تابعه. ﴿قلنا لا تخف﴾ ما توهمت، ﴿إِنك أنت الأعلى﴾ ؛ الغالب عليهم، والجملة : تعليل لنهيه عن الخوف، وتقرير لغلبته، على أبلغ وجه، كما يُعرب عنه الاستئناف، وحرف التحقيق، وتأكيد الضمير، وتعريف الخبر، ولفظ العلو.