قلت : فتحصل أنه - عليه الصلاة والسلام - لم ينطق بتلك الكلمات قط، لا سهوًا ولا عمدًا، وإنما أُلقيت في مسامع الكفار ليحصل ما تمناه - عليه الصلاة والسلام - من المقاربة. ويدل على هذا أن من حضر من المسلمين لم يسمعوا من ذلك شيئًا. فإذا تقرر هذا علمت أن ما حكاه السلف الصالح من المفسرين وأهل السير من أصل القصة في سبب نزول الآية صحيح، لكنه يحتاج إلى نظر دقيق وتأويل قريب، فلا تَحْسُن المبادرة بالإنكار والرد عليهم، وهم عدول، لا سيما حبر هذه الأمة، وإنما يحتاج اللبيب إلى التطبيق بين المنقول والمعقول، فإن لم يمكن، قدَّم المنقول، إن ثبتت صحته، وحكم على العقل بالعجز. هذا مذهب المحققين من الصوفية - رضي الله عنهم - ونسبة الإلقاء إلى الشيطان أدب وتشريع ؛ إذ لا فاعل في الحقيقة سواه تعالى.
﴿فينسخ اللهُ ما يُلقي الشيطانُ﴾ أي : يَذهب به ويُبطله، أو يُرشد إلى ما يزيحه، ﴿ثم يُحْكِمُ اللهُ آياته﴾ أي : يُثبتها ويحفظها عن لحوق الزيادة من الشيطان، ﴿والله عليمٌ حكيم﴾ أي : عليم بما يوحى إلى نبيه، حكيم في وحيه، لا يدع الباطل يأتيه من بين يديه ولا من خلفه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢٤
ثم ذكر حكمة ذلك الإلقاء، فقال :﴿ليجعل ما يُلقي الشيطانُ فتنةً﴾ أي : محنة وابتلاء ﴿للذين في قلوبهم مرضٌ﴾ : شك وشرك، ﴿والقاسية قلوبهم﴾ ؛ البعيدة من الخير، الخاربة من النور، واليابسة الصلبة، لا رحمة فيها ولا شفقة ؛ وهم المشركون المكذبون، فيزدادون به شكًا وظلمة. ﴿وإِنَّ الظالمين﴾ وهم الكفرة المتقدمة، ووضع الظاهر موضع المضمر ؛ تسجيلاً عليهم بالظلم، ﴿لفي شقاقٍ بعيد﴾ أي : عداوة شديدة ومخالفة تامة بعيدة عن الحق.


الصفحة التالية
Icon