قلت :﴿فتصبح﴾ : عطف على ﴿أنزل﴾، والعطف بالفاء أغنى عن الضمير، وإيثار صيغة الاستقبال ؛ للإشعار بتجدد أثر الإنزال، وهو الاخضرار واستمراره، أو لاستحضار صورة الاخضرار، وإنما لم ينصب جوابًا للاستفهام ؛ لأنه لو نصب لبطل الغرض ؛ لأن معناه في الرفع إثبات الاخضرار، فينقلب في النصب إلى نفيه، كما تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته نفيت شكره، وشكوت من تفريطه، وإن رفعته أثبت شكره.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ألم تر﴾ يا محمد، أو يا من يسمع، ﴿أن الله أنزل من السماء ماءً﴾ ؛ مطرًا ﴿فتصبحُ الأرض مخضرةً﴾ بالنبات، بعدما كانت مسودة يابسةً، ﴿إِنَّ اللهَ لطيفٌ﴾ بعباده، أو في ذاته لا يدرك، ﴿خبيرٌ﴾ بمصالح خلقه ومنافعهم، أو اللطيف المختص بدقائق التدبير، الخبير بكل جليل وحقير، قليل وكثير. ﴿له ما في السماوات وما في الأرض﴾ ؛ مُلكًا ومِلْكًا، قد أحاط بهم ؛ قدرةً وعلمًا، ﴿وإِنَّ الله لهو الغني﴾ عن كل شيء، المفتقر إليه كل شيء، ﴿الحميد﴾ : المحمود بنعمته، قبل ثناء من في السماوات والأرض عليه، أو المستحق للحمد، أعطى أو لم يعط.
ثم ذكر موجب الحمد من عباده، فقال :﴿ألم ترَ أن الله سخَّر لكم ما في الأرض﴾ من الأنعام ؛ لتأكلوا منها، ومن البهائم ؛ لتركبوها في البر، ﴿والفُلكَ تجري في البحر بأمره﴾ : بقدرته وإذنه، أي : وسخر لكم المراكب حال كونها جارية في البحر بإذنه، ﴿ويُمسكُ السماء أن تقعَ على الأرض﴾ أي : يحفظها من السقوط، بأن خلقها على هيئة متداعية إلى الاستمساك، ﴿إِلا بإِذنه﴾ : إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة، وفيه رد لاستمساكها بذاتها ؛ فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية، فتكون قابلة للميل الهابط قبُولَ غيرها. ﴿إِنَّ الله بالناس لرؤوفٌ رحيمٌ﴾ ؛ حيث هيأ لهم هذه الأسباب لقيام معاشهم، وفتح لهم أبواب المنافع، ودفع عنهم أنواع المضار، فأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية، فله الحمد وله الشكر.
٤٣٠