﴿يُلْقُون السمعَ﴾ وهم الشياطين، كانوا، قبل أن يُحجبوا بالرجم، يلقون أسْماعهم إلى الملأ الأعلى، فيختطفون بعض ما يتكلمون به، مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يُوحون به إلى أوليائهم. ﴿وأكثرهم كاذبون﴾ فيما يوحون به إليهم ؛ لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وفي الحديث :" إنهم يخلطون مع ما سمعوا مائة كذبةٍ "، فلذلك يُخطئون ويصيبون، وقيل : يلقون إلى أوليائهم السمع، أي : المسموع من الملائكة. وقيل : الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين، ثم يبلغون ما يسمعون منهم إلى الناس، ﴿وأكثرهُم﴾ أي : الأفاكون ﴿كاذبون﴾ : مفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم. والأفَّاك : الذي يذكر يكثر الإفك، ولا يدلّ على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلَّ من يصْدُق منهم فيما يحكيه عن الجِنَّةِ.
ولما ذكر الكهنة ذكر الشعراء وحالهم ؛ لينبه على بُعد كلامهم من كلام القرآن، فينتفي كونه كهانة وشعراً، كما قيل فيه، فقال :﴿والشعراءُ يتَّبِعُهم الغاوون﴾ : مبتدأ وخبر، أي : لا يتبعهم على باطلهم إلا الغاوون، فإنهم يصغون إلى باطلهم وكذبهم، وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب، ومدح من لا يستحق المدح، وهجاء من لا يستحق الهجو، ولا يستحسن ذلك منهم ﴿إلا الغاوون﴾، أي : السفهاء، أو الضالون عن طريق الرشد، الحائرون فيما يفعلون ويذرون، لا يستمرون على وتيرة واحدة فيما يقولون ويفعلون، بخلاف غيرهم من أهل الرشد، المهتدون إلى طريق الحق، الثابتين عليه.
﴿
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٢
ألم تَرَ أنهم﴾ أي الشعراء ﴿في كل وادٍ﴾ من الكلام ﴿يَهِيمُون﴾، أو في كل فن من الإفك يتحدثون، أو : في كل لغو وباطل يخوضون. والهائم : الذاهب على وجهه لا مقصد له، وهو تمثيل لذهابهم في كل شِعْبٍ من القول، وهو استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية، للقصد إلى أن حالهم
١٩٣