ثم قال لهم :﴿بل أنتم بهديتِكم تفرحون﴾. الهدية : اسم للمُهدَى، كما أن العطية اسم للمُعطَى، فتضاف إلى المُهْدِي والمهدَى له. والمعنى : أن ما عندي خير مما عندكم، وذلك أن الله تعالى آتاني الدين والمعرفة به، التي هي الغنى الأكبر، والحظ الأوفر، وأتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يُمد بمال من قِبلكم ؟ بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فلذلك تفرحون بما تزدادون ويُهدى إليكم ؛ لأنَّ ذلك مبلغ همتكم، وحالي خلاف ذلكم، فلا أرضى منكم بشيء، ولا أفرح إلا بالإيمان منكم، وترك ما أنتم عليه من المجوسية. والإضراب راجع إلى معنى ما تقدم، كأنه قيل : أنا لا أفرح بما تمدونني به بل أنتم.
ثم قال للرسول :﴿ارجعْ إليهم﴾ ؛ إلى بلقيس وقومها، وقل لهم :﴿فلَنَأْتينَّهم بجنودٍ لا قِبَلَ﴾ : لا طاقة ﴿لهم بها﴾. وحقيقة القِبَل : المقابلة والمقاومة، أي : لا يقدرون أن يقابلوهم، ﴿ولنُخْرجنّهم منها﴾ أي : من سبأ ﴿أذلةً وهم صاغرون﴾ : أسارى مهانون. فالذل : أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك، والصغار : أن يبقوا في أسر واستعباد. فلما رجع إليها رسولها بالهدايا، وقصّ عليها القصة، قالت : هو نبي، وما لنا به طاقة. ثم تجهزت للقائه، على ما يأتي إن شاء الله.
٢١٦
الإشارة : إذا توجه المريد إلى مولاه، توجهت إليه نفسه بأجنادها، وهي الدنيا، والجاه، والرئاسة، والحظوظ، والشهوات، فتُمده أولاً بمالٍ وجاه، تختبره، فإن علت همته، وقويت عزيمته، أعرض عن ذلك وأنكره، وقال : أتمدونني بمال حقير، وجاهٍ صغير، فلما آتاني الله من معرفته والغنى به خير مما آتاكم. ثم يقول للوارد بذلك : ارجع إليهم - أي : للنفس وجنودها - فلنأتينهم بجنود من الأنوار لا قِبَل لهم بها، ولنخرجنهم منها - أي : قرية القلب - أذلة وهم صاغرون. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢١٥


الصفحة التالية
Icon