يقول الحق جل جلاله :﴿تلك الدارُ الآخرة﴾ أي : تلك الدار التي سمعْت بذكرها، وبلغت خبرها. وعنى البُعد في الإشارة، لبُعد منزلتها وعلو قدرها، ﴿نجعلها للذين لا يُريدون علواً في الأرض﴾ أي : تكبراً وقهراً كحال فرعون، ﴿ولا فساداً﴾ ؛ عملاً بالمعاصي، أو ظلماً على الناس، كحال قارون، أو قتل النفس، أو : دعاء إلى عبادة غير الله، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما، أدرك ذلك بالفعل أم لا. وعن علي رضي الله عنه : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحيه، فيدخل تحتها. وعن الفضيل : أن قرأها، ثم قال : ذهبت الأماني ها هنا وعن عمر عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يرددها حتى قُبض. ﴿والعاقبة﴾ المحمودة ﴿للمتقين﴾ ما لا يرضاه الله ؛ من العلو والفساد وغير ذلك.
﴿ومن جاء بالحسنة فله خيرٌ منها﴾ ذاتاً وقدراً ووصفاً، ﴿ومن جاء السيئة﴾ ؛ مالا يرضاه الله تعالى، ﴿فلا يجزى الذين عملوا السيئات﴾، أصله : فلا يجزون، وضع الظاهر موضع المضمر ؛ لِمَا في إسناد السيئات إليهم من تقبيح رأيهم وتسفية أحلامهم، وزيادة تبغيض السيئات إلى قلوب السامعين، ﴿إلا ما كانوا يعملون﴾ ؛ إلا جزاء عملهم فقط، ومن فضله العظيم ألا يجزي السيئة إلا مثلها، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة.
الإشارة : جعل الله الدار الآخرة للمتواضعين، أهل الذل والإنكسار، والعاقبة المحمودة - وهي الوصول إلى الحضرة - للمتقين الشهرة والاستكبار، وفي الحكم :" ادفن نفسك في أرض الخمول ؛ فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدفنْ ؛ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُهُ ". قال في التنبيه : لا شيء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت ؛ لأن ذلك من أعظم حظوظه، التي هي مأمور بتركها، ومجاهدة النفس فيها، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ. هـ.