يقول الحق جل جلاله :﴿أَوَلَمْ يَرَوا﴾ أي : أهل مكة ﴿أنا جعلنا﴾ بلدهم ﴿حَرَماً﴾ أي : ممنوعاً مصوناً من الهبب، ﴿آمِنا﴾ ؛ يأمن كل من دخله، أو آمناً أهله من القتل والسبي، ﴿ويُتَخَطّفُ الناس من حولهم﴾ أي : يخطف بعضهم بعضاً، قتلاً وسبياً، إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب، ﴿أفبالباطل يؤمنون﴾ ؛ أبعد هذه النعمة العظمى يُؤمنون بالأصنام ويعبدونها، أو : الشيطان، ﴿وبنعمة الله يكفرون﴾ ؛ حيث أشركوا به غيْرَهُ، أو بمحمد ﷺ ؛ إذ هو النعمة المهداة، أو : الإسلام. وتقديم المعمولين ؛ للاهتمام، أو للاختصاص.
٣٢٦
﴿ومَنْ أظلمُ﴾ أي : لا أحد أظلم ﴿ممن افترى علىا لله كذباً﴾ ؛ بأن جعل له شريكاً، ﴿أو كذّب بالحق﴾ ؛ الرسول ﷺ، أو : الكتاب، ﴿لمَّا جاءه﴾ أي : لم يتعلثموا في تكذيبه لَمّا سمعوه، وفي " لَمَّا "، المقتضية للاتصال، تسفيه لرأيهم، حيث لم يتوقفوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. ﴿أليس في جهنم مَثْوىً﴾ ؛ مقاماً ﴿للكافرين﴾، وهو تقرير لمثواهم في جهنم، لأن همزة الإنكار، إذا دخلت على النفي، صار إثباتاً، كقوله :
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطايا
أي : أتم خير من ركب المطايا، والتقدير : ألا يستوجبون الثوى فيها ؟ وقد افتروا مثل هذه العظيمة، كذبوا على الله وكذّبوا بالحق الذي جاء من عنده، أو : ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين ؟ حين اجترأوا مثل هذه الجرأة، بل لهم فيها مثوى وإقامة. وهذه الآية في مقابلة قوله :﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً﴾ [العنكبوت : ٥٨]. لا سيما في قراءة الثاء. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الحرم الآمن، في هذه الدار، هو التبتل والانقطاع عن الدنيا وأبنائها، والتجريد من أسبابها، فمن دخله أَمِنَ ظاهراً وباطناً، ومن هجرها، وترك الناس حوله يتخطفون ويتهارجون عليها، وهو يتفرج عليهم، فالدنيا جيفة والناس كلابها، فإن خالطتهم ناهشوك، وإن تركت لهم جيفتهم سَلِمتَ منهم، فمن كذّب بهذا فقد كذَّب بالحق وآمن بالباطل، فلا أحد أظلم منه. وبالله التوفيق.
٣٢٧
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٦


الصفحة التالية
Icon