يقول الحق جل جلاله في وصف ذاته :﴿الذي أحسن كلَّ شيءٍ خلقه﴾ أي : أبدع خلق كل شيء، أتقنه على وفق حكمته. أو : أتقن كل شيء من مخلوقاته، فجعلهم في أحسن صورة. ثم ﴿بدأ خَلْقَ الإنسان﴾ ؛ آدم ﴿من طين ثم جعل نسله﴾ ؛ ذريته ﴿من سلالةٍ﴾ أي : نطفة مسلولة من سائر البدن، ﴿من ماءٍ﴾ أي : مَنِيٍّ، وهو بدل من سلالة، ﴿مِّهِينٍ﴾ ؛ ضعيف حقير. ﴿ثم سوّاه﴾ أي : سوّى صورته في أحسن تقويم، ﴿ونفخ فيه من روحه﴾، أضافه إلى نفسه، تشريفاً، إشارة إلى أنه خلق عجيب، وأن له شأناً ومناسبة إلى حضرة الربوبية، ولذلك قيل : من عرف نفسه عرف ربه. وقد تقدم في سورة الإسراء، في الكلام على الروح، وجه المعرفة منه. ﴿وجعل لكم السمعَ والأَبْصارَ والافئدة﴾ لتسمعوا كلامه، وتُبصروا آثار قدرته وعجائب حكمته، وتعقلوا، فتعرفوا صانعكم ومُدبرَ أمرِكم. ﴿قليلاً ما تشكرون﴾ أي : تشكرون شكراً قليلاً على هذه النعم ؛ لقلة التدبر فيها.
﴿وقالوا﴾ ؛ منكرين للبعث :﴿أئذا ضللنا في الأرض﴾، أي : صِرْنَا تراباً، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، لا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن. أو : غبنا في الأرض بالدفن فيها، يقال : ضَلَلَ ؛ كضرب، وضِلل ؛ كفرح. وانتصب الظرف في (أإذا) بقوله :﴿أئنا لفي خلق جديد﴾. أي : أُنبعث، ونُجدد، إذا ضللنا في الأرض ؟ والقائل لهذه المقالة أُبيّ بن خلف، وأسند إليهم ؛ لرضاهم بذلك، ﴿بل هم بلقاء ربهم كافرون﴾ ؛ جاحدون. لَمّا ذكر كفرهم بالبعث ؛ أضرب عنه إلى ما هو أبلغ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالبعث وحده. وقال المحشي : أي : ليس لهم جحود قدرته تعالى على الإعادة ؛ لأنهم يعترفون بقدرته، ولكنهم اعتقدوا ألاَّ حساب عليهم، وأنهم لا يَلْقَوْنَ الله تعالى، ولا يصيرون إلى جزائه. هـ. والله تعالى أعلم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٨