يقول الحق جلّ جلاله :﴿وقال الذين كفروا﴾ من منكري البعث :﴿هل نَدلُّكم على رجلٍ﴾ يعنون محمداً ﷺ، وإنما نكّروه ـ مع أنه كان مشهوراً عَلَماً في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم ـ تجاهلاً به وبأمره. وباب التجاهل في البلاغة معلوم، دال على سِحْرها، ﴿يُنَبئُكم إِذا مُزِّقْتمْ كلَّ مُمزَّقٍ إِنكم لفي خلقٍ جديدٍ﴾ أي : يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب، إنكم تُبعثون وتنشئون خلقاً جديداً، بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً، وتمزق أجسادكم بالبلى، كل تمزيق، وتفرقون كل تفريق، ﴿افْترَى على الله كذباً﴾ أي : أهو مفترٍ على الله كذباً فيما يُنسب إليه من ذلك ؟ ﴿أم به جِنَّة﴾ جنون توهمه ذلك، وتلقيه على لسانه. واستدلت المعتزلة بالآية على أن بين الصدق والكذب واسطة، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه، وأجيب : بأن الافتراء أخص من الكذب، لاختصاص الافتراء بالتعمُّد، والكذب أعم. وكأنه قيل : أتعمّد الكذب أو لم يتعمّد بل به جنون.
٦٤
قال تعالى :﴿بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلالِ البعيدِ﴾ أي : ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء، وهو منزّه عنهما، بل هؤلاء الكفرة، المنكرون للبعث، واقعون في عذاب النار، وفيما يؤديهم إليه من الضلال البعيد عن الحق، بحيث لا يرجى لهم الخلاص منه، وهم لا يشعرون بذلك، وذلك أحق بالجنون. جُعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال، مبالغة في استحقاقهم له، كأنهما كائنان في وقتٍ واحد ؛ لأن الضلال، لمّا كان العذاب من لوازمه، جُعلا كأنهما مقترنان. ووَصْف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي ؛ لأنَّ البعيد في صفة الضالّ إذا بَعُدَ عن الجادة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٦٤


الصفحة التالية
Icon