وقوله تعالى :﴿وما يُعَمَّرُ من معمر...﴾ الآية، طول العمر وقصره عند الحكماء، ليس هو بكثرة آماده، وإنما هو بكثرة أمداده. وفي الحكم :" رُبّ عمر اتسعت آماده، وقلّتْ أمداده، ورُبّ عمر قليلة آماده، كثيرة أمداده ". والأمداد : ما يجد القلب من معارف الله، وعلومه، وأنواره، وأسراره. فرُبّ قلب استمد في زمان قليل، من العلوم والمعارف والأسرار، ما لم يستمده غيره في أزمنة متطاولة. وقال أيضاً :" مَن بورك له في عمره، أدرك في يسير من الزمان من منن الله تعالى، ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة ". والغالب أن هذه الأمداد إنما تُنال بصحبة الرجال العارفين بالله، فإن المدد الذي يحصل له معهم في ساعة واحدة ؛ لا يحصل في أزمنة طويلة مع غيرهم، ولو كثرت صلاتهم وصيامهم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٠٨
وقال في القوت : فإن البركة في العمر أن تدرك في عمرك القصير، بيقظتك، ما فات
١٠٨
غيرك في عمره الطويل بعْد، فيرتفع لك في السنة ما لا يرتفع لغيرك في عشرين سنة. وللخصوص من المقربين في مقامات القرب عند التجلي بصفات الرب إلحاق برفع الدرجات، وتدارُكٌ بما فات عند أذكارهم، وأعمال قلوبهم، اليسيرة، في هذه الأوقات. فكل ذرة من تسبيح، أو تهليل، أو حمد، أو تدبُّر، أو تبصرة، أو تفكُّر وتذكرة، لمشاهدة قرب، ووجد برب، ونظرة إلى حبيب، ودنو من قريب، أفضل من أمثال الجبال من أعمال الغافلين، الذين هم لنفوسهم واجدون، وللخلق مشاهدون. ومثال العارفين، فيما ذكرناه ؛ من قيامهم بشهادتهم ورعايتهم لأماناتهم وعهدهم، في وقت قربهم وحضورهم ؛ مثلُ العامل في ليلة القدر، العمل فيها، لمَن وافقها، خير من ألف شهر. وقد قال بعض العلماء : كل ليلة للعارف بمنزلة ليلة القدر. هـ. منه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٠٨