الإشارة : مادة الآدمي أكمل من مادة الملائكة، فإذا اتصل العبد بشيخ كامل، واعتنى بتصفية روحه وسره، طَوى نوره الوجودَ بأسره، ولا يزال يترقى في معاريج أسرار التوحيد والتفريد، وتتوارد عليه الكشوفات، والعلوم، والأسرار، في هذه الدار الفانية، وفي تلك الدار الباقية، أبداً سرمداً، بخلاف الملائكة، فإنَّ لكل واحد مقاماً معلوماً لا يتعداه، كما أخبر تعالى :
وسرُّ ذلك : أن الآدمي فيه بشرية وروحانية، فكلما جاهد نفسه، وغاب عن حس بشريته ؛ ترقى في معارج التوحيد، والمجاهدة لا تنقطع عنه في هذه الدار ؛ لأنها دار أكدار، فلا ينقطع عنه الترقي في المشاهدة، وأما في تلك الدار ؛ فالترقي فيها من باب الكرم والإثابة على ما هنا. وأيضاً : البشرية للآدمي بمنزلة الطلاء للمِرآة، فالمرآة بلا طلاء لا ترى فيها صور الأشياء، كذلك الملائكة لا بشرية لهم، فلا تنكشف لهم الحقائق كما تنكشف للآدمي، ولو كشف لهم ما انكشف له لذابوا. والله أعلم.
قال في القوت : لَعمري إن سائر الملائكة لا ينتقلون في المقامات كترقي المؤمنين، إنما لكلٍّ مقام معلوم، لا ينتقل إلى غيره، إلا أنهم يُمدّون من ذلك بمدد لا نهاية له إلى يوم القيامة، بأكثر ما يزاد جملة البشر هـ. قلت : ومعنى كلامه : أن الملائكة يُمدون في مقامهم بقوة لا يستطيعها البشر، فمَن كان في مقام الهيبة دام فيها، وقَوِي عليها، ومَن كان في مقام الخدمة، دام عليها، وقوي عليها، قوةً لا يطيقها البشر، ولا يترقى عنها، بخلاف الآدمي، فليست فيه هذه القوة، لكنه يترقى من مقام إلى مقام، ويترقى في المعارف على الدوام.