﴿فلم يَكُ ينفعهم إِيمانُهم لَمّا رأَوْا بأسَنَا﴾ أي : فلم يستقم، ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند مجيء العذاب ؛ لأن النافع هو الإيمان الاختياري، لا الاضطراري، ﴿سُنَّتَ
٣٢٧
اللهِ التي قد خلتْ في عباده﴾
أي : سَنَّ اللهُ ذلك سُنَّة ماضية في عباده، ألاَّ يُقبل الإيمان إلا قبل نزول العذاب. وهو من المصادر المؤكدة، نحو : وعد الله، ونحوه. ﴿وخَسِرَ هُنالك الكافرون﴾ أي : وقت رؤيتهم البأس. فهنالك : مكان استعير للزمان، والكافرون خاسرون في كل أوان، ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب.
وفائدة ترادف الفاءات في هذه الآيات : أن ﴿فما أغنى عنهم﴾ نيتجة قوله :﴿كانوا أكثر منهم﴾ و ﴿فلما جاءتهم رسلهم﴾ كالبيان والتفسير لقوله :﴿فما أغنى عنهم﴾، كقولك : رُزِق زيد المال، فمَنَع المعروف، فلم يحسن إلى الفقراء، و ﴿فلما رأوا بأسنا﴾ تابع لقوله :﴿فلما جاءتهم﴾، كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا. وكذلك ﴿فلم يك ينفعهم إيمانهم﴾ تابع لإيمانهم لمّا رأوا بأس الله، والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد تقدّم مراراً الحث على عبادة التفكُّر. وقوله تعالى :﴿فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم...﴾ الآية، كذلك مَن يَظهر بعلم التجريد، ويتكلم في أسرار التوحيد، سَخِرَ منه أهل زمانه، ويقنعون بما عندهم من علم الرسوم الظاهرة، وهو علم لا يُغني ولا يُفني ؛ لأن جله يتعلق بمنافع الناس، لا بمنافع القلب، فلا يُغني القلب، ولا يُفني الحِس، إنما ينفع لطالب الأجور، لا لطالب الحضور ورفع الستور، وما مثال مَن ظفر بعلم القلوب ـ وهو أسرار التوحيد الخاص ـ إلا كمَن عنده كنز من الفلوس، ثم ظفر بالذهب الإبريز، او الإكسير، فكيف يمكن أن يلتفت إلى الفلوس مَن ظفر بالإكسير ؟ ! ولا يظهر هذا لأهل الظاهر إلا بعد موتهم، فيؤمنوا به حيث لا ينفعهم.
وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
٣٢٨
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٢٦


الصفحة التالية
Icon