يقول الحق جلّ جلاله :﴿مَثلُ الجنةِ﴾ أي : صفتها العجيبة، العظيمة الشأن ﴿التي وُعدَ المتقون﴾ الشركَ والمعاصي، هو ما نذكره لكم، ﴿فيها أنهار من ماء غيرِ آسنٍ﴾ غير
١١٤
متغير الطعم واللون والرائحة، يقال : أسن الماء : إذا تغير، سواء أنتن أم لا، فهو آسن وأسِن، ﴿وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمُه﴾ كما تتغير ألبان الدنيا بالحموضة وغيرها، وانظر إذا تمنّاه كذلك مربّباً أو مضروباً. والظاهر : أنه يعطَاه كذلك، إذ فيها ما تشتهيه الأنفس. ﴿وأنهارٌ من خبرٍ لذةٍ للشاربين﴾ أي : لذيذة، ليس فيها كراهة طعم وريح، ولا غائلة سُكْرٍ، وإنما هي تلذُّذ محضٌ. و " لذة " : إما تأنيث " لذّ " بمعنى لذيذ، أو : مصدر نُعت به للمبالغة.
﴿وأنهار من عسل مُصفى﴾ لم يخرج من بطون النحل فيخالطه شمع أو غيره، وفي حديث الترمذي :" إنَّ في الجنة بحرَ الماء، وبحرَ اللبن، وبحرَ العسل، وبحرَ الخمر، ثم تُشَقَّقُ الأنهارُ بعدُ " قال : حسن صحيح. وعن كعب : نهر دجلة من نهر ماء الجنة، والفرات نهر من لبنها، والنيل من نهر خمرها، وسَيْحان من نهر عسلها، والكل يخرج من الكوثر. قلت : ولعل الثالثة لمّا خرجوا إلى الدنيا تغيّر حالُهم، ليبقى الإيمان بالغيب. والله تعالى أعلم.
قيل : بُدئ من هذه الأنهار بالماء ؛ لأنه لا يُستغنى عنه قط، ثم باللبن ؛ لأنه يجري مجرى المطعوم والمشروب في كثير من الأوقات، ثم بالخمر ؛ لأنه إذا حصل الريّ المطعومُ تشوقت النفسُ إلى ما يلتذ به، ثم بالعسل ؛ لأنه فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم ؛ فهو متأخر في الرتبة.
﴿ولهم فيها﴾ مع ما ذكر من فنون الأنعام ﴿من كل الثمراتٍ﴾ أي : صنف من كل الثمرات. ﴿و﴾ لهم ﴿مغفِرةٌ﴾ عظيمة ﴿من ربهم﴾ أي : كائنة من ربهم، فهو متعلق أي : مغفرة عظيمة من ربهم. وعبّر بعنوان المغفرة دون الرحمة ؛ إشعاراً بأن الميل إلى نعيم الأشباح نقص في الدارين يستوجب المغفرة.


الصفحة التالية
Icon