وقوله تعالى :﴿وما أَمْرُنا إِلا واحدةٌ..﴾ الخ، هذا في عالمَ الأمر، ويُسمى عالم القدرة، وأما في عالم الخلق، ويسمى عالَم الحكمة، فجُلّه بالتدريج والترتيب، ستراً لأسرار الربوبية، وصوناً لسر القدرة الإلهية، ليبقى الإيمان بالغيب، فتظهر مزية المؤمن ؟ ويُقال لأهل العناد المُتجبرة : ولقد أهلكنا أشياعكم ؛ إما بالهلاك الحسي، أو المعنوي، كالطرد والبُعد، فهل من متعظٍ، يرجع عن عناده ؟ وكل شيء فعلوه في ديوان صحائفهم، وكل صغير وكبير من أعمال العباد مسطورة في العلم القديم. إنَّ المتقين ما سوى الله،
٢٦٤
في جنات المعارف، وأنهار العلوم والحِكَم، في مقعد صدق، هو حضرة القدس، ومحل الأنس، عند مليك مقتدر. قال الورتجبي : مقامات العندية جنانها زفارف الأنس، وأنهارها أنوار القدس، أجلسهم الله في بساط الزلفة والمداناة، التي لا يتغير صاحبها بعلة القهر، ولا يزول عنها بالتستُّر والحجاب ؛ لذلك سماه " مقعد صدق " أي : محل كرامة دائمة، ومزية قائمة، ومواصلة سرمدية، والله مقدّر قادر. انظر تمام كلامه.
وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
٢٦٥
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٦٣
الإشارة : هذه الآية وأشباهها هي التي غسلت القلوب من الأحزان والأغيار، وأراحت العبد من كدّ التدبير والاختيار ؛ لأنّ العاقل إذا علمَ عِلم يقين أن شؤونه وأحواله، وكل ما ينزل به، قد عمّه القدر، لا يتقدّم شيء عن وقته ولا يتأخر، فوَّض أمره إلى الله، واستسلم لأحكام مولاه، وتلقى ما ينزل به من النوازل بالرضا والقبول، خيراً كان أو شرّاً، كما قال الشاعر :
إِذا كانتِ الأَقْدارُ مِن مَالكِ المُلْكِ
فَسِيَّان عِندي مَا يَسرُّ وما يُبكي
وقال آخر :
تَسَلَّ الْهُمومِ تَسل
فَما الدُّنيا سِوى ثوبٍ يُعارُ
وسَلِّم للمُهَيْمنِ في قَضَاهُ
ولاَ تَخْتَرْ فلَيْسَ لَكَ اخْتِيارُ