﴿ثم تَولوا عنه﴾ أي : عن ذلك الرسول، بعدما شاهدوا من العظائم ما يوجب الإبال عليه، ولم يقنعوا بالتولِّي، بل اقترفوا ما هو أشنع، ﴿وقالوا﴾ في حقه عليه السلام :﴿مُعَلَّمٌ مجنون﴾ أي : قالوا تارة مُعَلَّم يُعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، وتارة مجنون، أو : يقول بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وكيف يتوقع من قوم هذه صفتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير ؟ ! قال تعالى :﴿إِنا كاشفوا العذاب قليلاً﴾ أي : زمناف قليلاً، أو كشفاً قليلاً، ﴿إِنكم عائدون﴾ إلى الكفر، الذي أنتم فيه، أو : إلى العذاب بعد صرف الدخان، على القول الأول، ﴿يوم نبطشِ البطشةَ الكبرى﴾ يوم بدر، أو يوم القيامة، ﴿إِنا منتقمون﴾ أي : ننتقم منهم في ذلك اليوم. وانتصاب ﴿يوم نبطش﴾ باذكر أو بما دلّ عليه ﴿إنا منتقمون﴾، وهو ننتقم، لا بمنتقمون، لأن ما بعد " إن " لا يعمل فيما قبله. الإشارة :﴿فارتقب﴾ أيها العارف ﴿يوم تأتي السماء بدخان مبين﴾ أي : يوم يبرز من سماء الغيوب بدخان الحس، وظلمة الأسباب تغشى قلوب الناس، فتحجبهم عن شمس العرفان، هذا عذاب أليم موجع للقلوب، حيث حجبها عن حضرة علاّم الغيوب. وأما العارف فشمسه ضاحية، ونهاره مشرق على الدوام، كما قال شاعرهم :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤
لَيلِي بوجهكَ مشْرقٌ
وظلامُهُ في الناس سَارِ
الناسُ في سَدَفِ الظَّلامِ
ونحنُ في ضوءِ النَّهارِ
٤٥
وقال آخر :
طَلَعتْ شَمْسُ مَن أُحبُّ بِليلٍ
فَاسْتَنارَتْ فما تلاها غُروبُ
إِن شمسَ النَّهارِ تَغْربُ بِليلٍ
وشَمسُ القُلوبِ لَيْسَت تغِيبُ
قال القَشيري : قيامة هؤلاء - أي الصوفية - مُعَجَّلة لهم، يوم تأتي السماء فيه بدخان، مبين، وهو باب غيبة الأخبار، وانسداد باب ما كان مفتوحاً من الأنس بالأحباب. قلت : وأحسن من عبارته أن تقول : وهو باب غيبة الأنوار، وانسداد نبع الأسرار. ثم قال : وفي معناه قالوا :
فلاَ الشمس شَمْسٌ تستنيرُ ولا الضحى