وسقاهم ربُّهم}، أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص، وقيل : إنَّ الملائكة يعرضون عليهم الشراب، فيأبون قبولَه منهم ويقولون : قد طال أخْذُنا مِن الوسائط، فإذا هم بكاساتٍ تُلاقِي أفواههم بغير أكفٍّ من غيبٍ إلى عَبْدٍ. هـ. قلت : ولعل هؤلاء كانوا محجوبين في الدنيا، وأمّا العارفون فالوسائط محذوفة في نظرهم مع وجودنا. فيسقيهم ﴿شراباً طهوراً﴾ أي : ليس برجْسٍ كخمر الدنيا، لأنَّ كونها رجساً بالشرع لا بالعقل، أو : لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضِرة، وتدوسه الأرجل الوسخة، والوضر : الوسخ. قال البيضاوي : يريد به نوعاً آخر، يفوق النوعين المتقدمين، ولذلك أسند سقيه إلى الله، ووصفه بالطهورية، فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرّد لمطالعة جماله، ملتذًّا بلقائه، باقياً ببقائه، وهو منتهى درجات الصدِّيقين، ولذلك خُتِم به ثواب الأبرار. هـ. ويُقال لأهل الجنة :﴿إِنَّ هذا﴾ أي : الذي ذكر من فنون الكرامات ﴿كان لكم جزاء﴾ في مقابلة أعمالكم الحسنة، ﴿وكان سعيُكم مشكوراً﴾ ؛ مرضياً مقبولاً عندنا، حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير : لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً.
الإشارة : ويطوف على قلوبهم وأسرارهم جواهر العلوم، ويواقيت الحِكَم كأنها اللآلىء المنثورة، وإذا رأيتَ ثَمَّ إذا جالت فكرتك، وعامت في بحار الأحدية، رأيت ببصيرتك نعيماً من نعيم الأرواح، وهي لذة الشهود والفرح برؤية الملك الودود، ومُلكاً كبيراً، وهي عظمة الذات الأولية والآخرية، والظاهرة والباطنة. وإذا رأيتَ ذلك كان الوجود كله تابعاً لك، ينبسط ببسطك، وينقبض بقبضك، وحكمه حكمك، وأمره عند أمرك، تتصرف بهمتك على وفق إرادة مولاك، عاليَهم ثياب العز والبهاء، وثياب الهيبة والجلال ؛ وحُلُّوا أساورَ من مقامات اليقين، وسقاهم ربُّهم شراباً طهوراً، وهو شراب الخمرة، فإنها تطهر القلوب والأسرار من البقايا والأكدار.


الصفحة التالية
Icon