﴿وأنزلنا من المُعْصِرات﴾ أي : السحاب إذا أعصرت، أي : شارفت أن يعصرها الرياح فتمطر، ومنه : أعصرت الجارية : إذا دنت أن تحيض، والرياح : إذا حان لها أن تعصر السحاب، وقد جاء : أنَّ الله تعالى يبعث الرياح، فتحمل الماء إلى السحاب فتعصره كما يعصر الماء من الجفافة، أي : أنزلنا من السحاب ﴿ماءً ثَجَّاجاً﴾ أي : منصباً بكثرة، يقال : ثج الدم، أي : أساله، ومنه قوله ﷺ :" أفضل الحج العجّ والثج " أي : رفع الصوت بالتلبية، وصب دم الهَدْي.
﴿لنُخرج به﴾ ؛ بذلك الماء ﴿حباً﴾ يُقتات به، كالحنطة والشعير، ونحوهما ﴿ونباتاً﴾ يُعلف، كالتبن والحشيش. قال الطيبي : النبات أريد به النابت. وتقديم الحب مع تأخره في الإخراج لشرفه ؛ لأنَّ غالبة قوت الإنسان. ﴿وجناتٍ﴾ ؛ بساتين، من : جنّة إذا ستره، فالجنة تطلق على ما فيه النخل والشجر المتكاثف، لأنه يستر الأرض بظل أشجاره، وقال الفراء : الجنة ما فيه النخل، والفردوس مافيه الكرم. و ﴿ألفافاً﴾ صفة، أي : ملتفّةَ الأشجار، واحدها :" لِفّ " ككِن وأكنان، أو : لَفيف، كشريف وأشراف، أو : لا واحد له، كأوْزاع وأضياف، أو جمع الجمع، فألفاف جمع " لُفّ " بالضم، و " لُفّ " ـ جمع " لَفَّاء " كخُضر وخضراء، واللِّفُ : الشجر الملتف.
قال أبو السعود : اعلم أنَّ فيما ذكر تعالى من أفعاله ـ عزّ وجل ـ دلالة على صحة البعث من ثلاثة أوجه :
٢١٧
الأول : باعتبار قدرته تعالى، فإنَّ مَن قَدَر على إنشاء هذه الأفعال البديعة، من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه، كان على الإعادة أقدر وأقوى.
الثاني : باعتبار علمه وحكمته، فإنَّ مَن أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع، مستتبع لغايات جليلة، ومنافع جميلة، عائدة إلى الخلق، يستحيل أن يخليها من الحكمة بالكلية، ولا يجعل لها عاقبة باقية.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٦


الصفحة التالية
Icon