ثم أومأ تعالى إلى أنه مختص بحقيقة علمها، فقال :﴿إِلى ربك منتهاها﴾ ؛ منتهى علمها متى يكون، لا يعلمها غيره، ﴿إِنما أنت منذرُ من يخشاها﴾ أي : لم تُبعث لتُعلمهم وقت الساعة، وإنما بُعثت لتُخوّف مِن أهوالها مَن يخاف شدائدها، ﴿كأنهم يوم يرونها﴾ أي : الساعة ﴿لم يَلبثوا﴾ في الدنيا ﴿إِلاَّ عشيةً أو ضُحاها﴾ أي : ضحى العشية، استقلُّوا مدّة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول، كقوله :﴿لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾ [الأحقاف : ٣٥] وإنما صحّ إضافة الضحى إلى العشية للملابسة، لاجتماعهما في نهارٍ واحد، والمراد : أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن أحد طرفي النهار عشية يومٍ واحدٍ أوضحاه.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٣٤
وقال أبو السعود : الآية إما تقرير وتأكيد لما يُنبىء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذَر به، أي : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلاّ عشية يوم واحد أو ضحاه، فلما ترك اليوم أضيف ضحاه إلى عشيته. وإمّا رد لما أدمجوه في سؤالهم، فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستهزاء مسعجلين لها، فالمعنى : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلاّ عشية أو ضُحاها، واعتبار كون اللبث في القبور أو في الدنيا لا يقتضيه المقام، وإنما الذي يقتضيه اعتبار كونه بعد الإنذار، أو بعد الوعيد، تحقيقاً للإنذار، وردًّا لاستبطائهم. والجملة على الأول : حال من الموصول، فإنه على تقدير الإضافة وعلى عدمها مفعول لمُنذر، كما أنَّ قوله تعالى :﴿كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارٍ﴾ [يونس : ٤٥] حال من الضمير في " نحشرهم " أي : نحشرهم مشبّهين بمَن لم يلبث في الدنيا إلاّ ساعة من النهار، خلا أن التشبيه هناك في الأحوال الظاهرة من الزي والهيئة، وفيما نحن فيه من الاعتقاد، كأنه قيل :
٢٣٥
عِدْهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمَن لم يلبث بعد الإنذار بها إلاّ تلك المدة اليسيرة، وعلى الثاني : مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. هـ.
الإشارة : يسألونك أيها العارف عن الساعة التي يفتح الله فيها على المتوجِّه بالدخول في مقام الفناء في الذات، أيَّان مُرْساها، إنما أنت منذر مَن يخشى فواتها، أي : إنما أنت مُبَيّن الطريق التي توصل إليها، وتُخوِّف من العوائق التي تعوق عنها، وليس مِن وظيفتك الإعلام بوقتها، لأنها موهبة من الكريم الوهّاب، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاّ عشية أو ضحاها، أي : يستصغرون مدة مجاهدتهم وسيرهم في جانب عظمها. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم.
٢٣٦
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٣٤


الصفحة التالية
Icon