ثم ذكر نِعمه عليه، فقال :﴿ألم نجعل له عينين﴾ يُبصر بهما المرئيات، ﴿ولساناً﴾ يُعَبِّرُ به عما في ضميره، ﴿وشفتين﴾ يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها، ﴿وهديناه النجدين﴾ أي : طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار، فهو كقوله :﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ...﴾ [الإنسان : ٣] الآية. وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد، بل معنى الإلهام، أو : الثديين، وأصل النجد : المكان المرتفع، ومنه سُميت نجد، لارتفاعها عما انخفض من الحجاز.
الإشارة : أقسم تعالى ببلد المعاني، التي هي أسرار الذات، ووالد، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات، لقد خلق الإنسانَ في كبد : في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله، أعني : روحانيًّا قدسيًّا، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع. قال الكواشي : عن بعضهم : الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه، واقفاً بحاله، فإنه في ظلمة وبلاء، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته، بفناء طبائعه عنه، صار في راحةٍ. هـ.
٣٠٥
والحاصل : أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان، فإنه في روح وريحان، وجنات ورضوان. أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا. ألم نجعل له عينين، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله ؟ فليرح نفسه من تعب التدبير، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه، وهديناه الطريقين ؛ الشريعة والحقيقة، فإذا سلكهما وصلناه إلينا.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٠٤