وقوله تعالى :﴿ألم يجعل كَيْدَهُمْ في تضليلٍ﴾ بيان إجمالي لما فعل اللهُ بهم، والهمزة للتقرير كما سبق، ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها، كأنه قيل : جعل كيدهم للكعبة وتخريبها في تضييع وإبطال بأن دَمَّرهم أشد تدمير. يقال : ضلّ كيده، أي : جعله ضالاًّ ضائعاً، وقيل لامرىء القيس : الملِك الضلّيلِ ؛ لأنه ضيّع ملك أبيه باشتغاله بالهوى.
﴿وأَرْسَل عليهم طيراً أبابيلَ﴾ أي : جماعات تجيء شيئاً بعد شيء. والجمهور : أنه لا واحد له من لفظه، كشماطيط وعبابيد، وقيل : واحدها : إبّالة. قالت عائشة رضي الله عنها : أشبهُ شيء بالخطاطيف. قال أبو الجوز : أنشأها الله في الهواء في ذلك الوقت، وقال محمد بن كعب : طيرد سود بَحرية، وقيل : إنها شبيهة بالوطواط حُمْر وسُود. ﴿ترميهم بحجارةٍ﴾ صفة لطير، ﴿من سِجّيلٍ﴾ من طين متحجر مطبوخ مثل الآجر، قال ابن عباس :" أدركت عند أم هاني نحو قفيز من هذه الحجارة ". ﴿فجعلهم كعَصْفٍ مأكولٍ﴾ كورَق زرع وقع فيه الأكل، أي : أكلته الدود، أو : كَتِبن أكلته الدواب فراثته، فجمع لهم الخسة والمهانة والتلف، أو : كتبن علفته الدواب وشتته.
٣٥٥
فائدة : قال الغزالي عن غير واحد من الصالحين وأرباب القلوب : إنه مَن قرأ في ركعتي الفجر في الأولى بالفاتحة و " ألم نشرح "، والثانية بالفاتحة و " ألم تر " قََصرت يد كُل عدو عنه، ولو يُجعل لهم إليه سبيلاً، قال : وهذا صحيح لا شك فيه. ذكره في الجواهر.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٥٤
الإشارة : قلب العارف هو كعبة الوجود، وهو بيت الرب، وجيوش الخواطر والوساوس تطلب تخريبه، فيحميه اللهُ منهم، كما حمى بيتَه من أبرهة، فيقال : ألم ترَ أيها السامع كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، وهم الأخلاق البهيمية والسبعية، والخواطر الردية، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طير الواردات الإلهية، فرمتهم بحجارة الأذكار وأنوار الأفكار، فأسْحقتهم فجعلتهم كعصفٍ مأكول. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
٣٥٦
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٥٤