يقول الحق جلّ جلاله :﴿لإِيلافِ قريشٍ﴾ أي : فلتعبد قريش رب هذا البيت لأجل إيلافهم الرحتلين، وكانت لقريش رحلتان، يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتّجرون، وكانوا في رحلتهم آمنين ؛ لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته العزيز، فلا يُتَعرّض لهم، والناس بين مختطف ومنهوب. و(الإيلاف) : مصدر، من قولهم : ألفت المكان إيلافاً وإلافاً وإلفاً. وقريش : ولد النضر بن كنانة، وقيل : ولد فهر بن مالك، سُمُّوا بتصغير القِرْش، وهو دابة عظيمة في البَحر، تعبث بالسفن فلا تطاق إلا بالنار، والتصغير للتفخيم، سُمُّوا بذلك لشدتهم ومنعتهم تشبيهاً بها. وقيل : مِن القَرْش، وهو الجمع والكسب ؛ لأنهم كانوا كسّابين بتجارتهم وضربهم في البلاد.
وقوله تعالى :﴿إِيلافهم رحلةَ الشتاءِ والصيف﴾ بدل من الأول، أطلق الإيلاف، ثم أبدل منه المقيّد بالرحلتين تفخيماً لأمر الإيلاف، وتذكيراً لعظيم هذه النعمة. و " رحلة "
٣٥٧
مفعول بإيلاف، وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس.
﴿فليعبدوا رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهم﴾ بسبب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منها بواسطة كونهم من جيرانه، ﴿من جوعٍ﴾ شديد كانوا فيه قبلهما. قال الكلبي : أول مَن حمل السمراء من الشام، ورحل إليها : هاشم بن عبد مناف. هـ. ولمّا بعث اللهُ نبيه، الذي هو نبي الرحمة، وأسلمت قريش، أراح اللهُ الناسَ من تعب الرحلتين، وجلبت إلى مكة الأرزاق من كل جانب، ببركة طلعته صلى الله عليه وسلم. قال مالك بن دينار : ما سقطت أُمة من عين الله إلاّ ضرب أكبادهم بالجوع. وكان عليه الصلاة والسلام يقول :" اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع " والمذموم هو الجوع المفرط، الذي لم يصحبه في الباطن قوة ولا تأييد، وإلاَّ فالجوع ممدوح عند الصوفية، أعني الوسط.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٥٧


الصفحة التالية
Icon